مثل آخرين كُثُرٍ غيري، أعيش في حيّ غير بعيد عن مركز المدينة. هنا، حيث يلتقي مهاجرون وغرباء، عمّال فقراء ومتسولون، تمتدّ عمارات بُنيت على عَجَل، متطاولة ومتقاربة على الطرف الجنوبي الغربي للمدينة الكبيرة القديمة. الحي ليس حديثاً ولا قديماً، كان جزءاً من الريف، إذ ثمة بقايا حقول زيتون وبيوت ترابية وحجرية من طابق واحد، لكنه الآن يكاد يتحول إلى مدينة تزحف نحو مدينة أخرى، وأنا أعيش فيه داخل منزل واسع، شبه وحيد، كما أنني نادراً ما أخرج من المنزل الذي استأجرته منذ قرابة ثمانية أشهر.
باصات النقل العامّ قديمة ضخمة، بطيئة ومهترئة. عندما أتنقل من حيّ إلى آخر أحسُّ أنني أتنقل داخل جسدي لا غير، أتعثّر به كما لو أنه يقف على الضدّ من حركتي، بل إنه يريد أن يعيدها إلى الوراء، ويجرّها كي لا تتقدم إلى الأمام. حديد مقاعد الباص الضيقة، جراء رغبة السائقين في مضاعفة عدد الركاب، يؤلم ركبتي المحشوريتين بينها، فيما رأسي تنقذه بضع أشجار نحيلة تظهر متناوبة إثر لوحات إعلانية لمطربين يحيون لياليَ مملة وماجنة في ملاهٍ ليلية قريبة.
وبينما كنت أتخيل الحياة الليلية في تلك الملاهي، التي أمقتها وتخيفني، كان يحزنني بقائي محبوساً بداخلي، كما لو أنني أنا أيضاً قديم مثل الباصات وحركتي بطيئة متعثرة، في ملهاة يومية سخيفة بلا منفذ. هل كل قديم على حال كهذه في الحقيقة!
أكتب لأنني بحاجة لأتنفس وأرى. لا أريد أن أخرج، أريد أن أكتب عن مكان لا أعرفه، دون ادعاء الفطنة ولا المتعة، كما لو كنت نواة ضئيلة بدأت تتعفن داخل ثمرة ضخمة، من دون شكوى ولا صراخ. هنا أتعرف عليّ مرئياً كعدمٍ لامع داخل مرآة فارغة. أوجَدُ داخل نظرتي أكثر مما أرى عبرها. كم أنا صغير! الصِّغرُ يحسّسني بوجودي المهمَل كما لو كنت نفحة من غبار خفيف لا يترك أثراً على أي شيء وليس بحاجة إلى ملاذ قط. أحياناً، أرغب لو تحملني يد
ساحة حجرية مفتوحة على السماء، لها ضلعان بلا سياج، فيما الآخران جداران مرتفعان، يشكل أحدهما آخر حدٍّ لأسْقُفِ سوق الحميدية. الساحة مرتفعة قليلاً عن مستوى رصيف المشاة المحاذي في نهايته الشمالية مرقد "صلاح الدين الأيوبي"، في الساحة تلك، العريضة المنبسطة، أمام المدخل الغربي للمسجد الأموي، اجتمع بضعة فتيان فجأة.
كان كل واحد منهم قد ارتدى بنطلوناً أقرب إلى شورت قصير، وكان على أقدامهم أحذية تشبه أحذية عدائي المسافات الطويلة. الوقت ليل والفصل صيف، الهواء ساكن، المسجد صامت وجدرانه العالية الصلدة مضاءة بأشعة صفراء قوية. حجارة الساحة من بازلت أسود، متلاصقة بقوة، تبدو كما لو أنها أُعدّت لتدريبات مجندين على مارش عسكري، ويصدر عنها صوت مكتوم عندما تمشي عليها، كأنما الساحة والجامع لا يريدان سماع أي صوت، كأنهما ضجران من ثقل الزمن وسطوع الضوء فلا يطيقان فوقه ثقلَ أصوات المارة المزدحمين. يبدو أن الفتية معتادون على التجمع في هذا المكان، فتحركهم وتنقلاتهم فيه سلسة وأنيقة. يصحب كل فتى "بسْكليته"، ويبدأ الدوران حول وداخل محيط الساحة. الناس متشابهون هذه الليلة، فمناظرهم هادئة ومشيهم بطيء، ربما بسبب شدة سخونة النهار، الذي سرّبَ خموله حتى هذا الوقت من الليل، وربما إحساسهم الجديد، المتكرر، بطقس دائم الحلول كل سنة، بعدما تأكدوا أن الغد يصادف أول يوم من شهر رمضان. كأن نهاية الانتظار تخلف نوعاً من الجمود الأليف، غير أن الفتية ما لبثوا أن تكاثروا وتعالت صيحاتهم. اثنان منهم تمددا على ظهريهما، رفعا قليلاً من وجهيهما، على حجارة الرصيف، في وسطه تقريباً، ودار حولهما ثالث بدا أكبرهم بسبب ضخامة بدنه وجرأته، ثم أسرع من الدوس ضاغطاً على عجلتي الدراجة الصغيرتين، بعدما ارتفع بجسمه عن المقعد الجلدي الصغير، وقفز فوق زميليه الممدين، كأنما بجسدهما كانوا قد حددوا له المسافة التي ينبغي عليه تجاوزها طائراً بجسمه الثقيل ودراجته تحته تقفز معه. شجرتا تين، بينهما شجيرة عنب قصيرة، تنظران إلى الساحة، ومن أعلى السور المحاذي سطح سوق الحميدية يبرز فرخ حمام رأسه، بصعوبة يمكث هناك في إطلالة صغيرة، بعد أن سحب جناحيه إلى جذعه، وسكن وحيداً مغمض العينين على نتوء صخري أبيض. إن الفتى الضخم بارع في استعمال البسكليت، غير أن براعته لا مبالية وطائشة. كان يود إخبار أصدقائه والمتفرجين عليهم، أنه الوحيد القادر على القفز، لذلك كان يكثر من تكرار عرض مهارته. عدا هذا فإنه أقحم نفسه في نزاع كاد ينتهي بالضرب والرفس مع صبي حمَّال، أراد هو أيضاً خوض جولة من جولات القفز، فرجا وتوسل الفتى الضخم إعارته البسكليت لدورة واحدة فقط. ثم إن الفتى الضخم، وحينما كان بقية الزملاء مشغولين بالتجوّل والصياح والحماسة، كان يعمد إلى إفراغ دولاب بسكليت صغير تركه صاحبه على زاوية الساحة، جهة المسجد. لشدَّ ما آلمني ما رأيتُ. ربما كان الفتى يمزح لا غير، لكنني لم أجد دافع المزاح ما جرَّه إلى عملٍ كهذا. قفلت راجعاً، وقلت في نفسي إن فتية كهؤلاء سيجدون الأيام القادمة صعبة، ذلك أنهم مثلي محاطون برغبات لا تفسير لها. ثم إنهم حولوا اللعب إلى خدعة، وإلى تعالٍ، وغش. ماذا يبقى من اللعب إذا كانت الغاية هي الاستعراض لا غير، لا غير. كنتُ في نزهةٍ صمتُها أفضل من نسيانها، وشعرت أنني بدأت أدوخ جرّاء تحديقي في العجلات التي تكاد لا تتوقف، وها أنذا أعود مشياً إلى حجرتي ذاتها.