"اليسار العربي الذي أفهمه متصل بالحرية والعدالة الاجتماعية، وليس بمفهومه السياسي الضيق، وقد أخطأ حين كان يضع نظرياته عن "النقد والنقد الذاتي"، و"الالتزام"، و"الأدب للجماهير"، وغيرها، لأنه لم يكن يطبّقها في الواقع، وأصبحت النظريات مفاهيم مقدّسة في الوقت الذي كنا فيه نعلن تمرّدنا على المقدّسات، لقد كنا نصنع صنماً جديداً حين كنا نتوهّم أننا نحطّم صنماً قديماً"، يقول الشاعر البحريني قاسم حداد (1948) لـ"العربي الجديد" في لقاء أثناء زيارته لعُمان مؤخراً، حيث قدّم أمسية شعرية في "النادي الثقافي" بمسقط.
كان الحديث عن التجربة السياسية لجيله مناسبة لفتح الحوار معه حول مواقفه اليوم من الثقافة والأيديولوجيا والكتابة. يرى حداد أنه "حين يتم الاتكاء على النظريات لا على الإنسان، وتنهار النظرية ينهار معها الإنسان، في حين أن المعنى الإبداعي الإنساني يكمن في الإنسان لا خارجه". هنا، يتمنى صاحب مجموعة "القيامة" للأجيال الجديدة "ألا تقع في نفس أخطائنا، وأن تتمسّك بتجربتها الإبداعية الخلاّقة، مع موقفها السياسي الشخصي، ولكن ليس على حساب الإبداع فهو الخالد، أما النظريات والأيديولوجيات فإلى زوال".
ومع اعتزازه الصغير بـ "اليساري في شبابه"، يرى حداد أن أفكار "اليسار العربي" - الذي يصفه بالـ "يسارات"- كانت تنظيرية أكثر مما هي واقعية، بل ومتناقضة مع السلوك الشخصي لمنظّريها، فالنظرية كانت في وادٍ والتطبيق والسلوك في وادٍ آخر. ويعتبر الشاعر أن من بين أخطاء "اليسار العربي"، رغم تغنّيه بشعارات "العلمانية" والمدنيّة"، ما أسماه بالخطأ "الفادح"، حين استبعد "الدين" من أفكاره "التقدمية"، وبالتالي فقد القاعدة الجماهيرية الحاضنة له، والتي سرعان ما ألقت بنفسها في أحضان "الإسلام السياسي"، بعد انحسار "اليسار العربي".
تحدث الشاعر بأسى عن أحلام "الشاعر الثوري"، و"برغماتية" وانتهازية "السياسي الثوري"، فالأول حالم صدّق كذبة الأخير بأن "الإنسان" هو بوصلة أية "ثورة"، فيما كان "إنسان" المستبد يختلف جذرياً عن "إنسان" الشاعر الذي ينشد "الحرية" و"العدالة الاجتماعية"، خارج النظريات والأحزاب في كل زمان ومكان. بدا صاحب "انتماءات" كمن يود تقديم اعتراف، حول تلك المرحلة "الرومانسية"، وكأن لسان حاله يقول: "لم يكن بالإمكان أكثر مما كان".
في سياق آخر، وفي زيارته الخامسة لعُمان، تحدث حدّاد عن علاقته بالمكان العُماني، فعاد إلى الستينيات القرن الماضي: "تعرّفت على الإنسان العُماني عاملاً وكادحاً في البناء كمفهومٍ إنساني للعمل المشترك، مما ولّد لدي حميمية خاصة تجاهه، وتطورت علاقتي مع المكان لاحقاً بالمفهوم "النضالي"، وصار للمكان العُماني ملمح روحي يتصل بالنضال والحبّ والشعر أيضاً، وبالأدب إجمالاً، حيث تعرّفت على الشاعر والروائي الريادي عبدالله الطائي مثلاً (توفي عام 1971)، وتوطّدت علاقتي بالشعراء العمانيين الجدد كـ سماء عيسى وسيف الرحبي وزاهر الغافري، وغيرهم من الأجيال الجديدة".
وكان حداد قد تحدث في النقاش الذي تلا أمسيته الشعرية، التي قدّمها الشاعر سماء عيسى، عن رأيه في التجربة الشعرية العُمانية، هو الذي أحيا أول أمسية شعرية له بالنادي الثقافي عام 1987، أي بعد ثلاثة عقود، ظهرت فيها أصوات واختفت أخرى، أن ما يستوقفه في هذه التجربة "متانة اللغة المتحرّرة من الشكل الخارجي للنص، كما أن اللغة هنا عربية، بمعنى عندما تقرأ شاعراً عُمانياً، فأنت تقرأ شعراً عربياً وليس شعراً عربياً يبدو وكأنه مترجم عن لغة أخرى، حيث استفاد الشعراء العمانيون من تراثهم اللغوي".
أما عن تكرار ثيمتي الحبّ والموت في تجربته فيقول صاحب "أخبار مجنون ليلى" لـ"العربي الجديد" إن "هاتين الثيمتين تمثّلان هاجساً للمبدعين إجمالاً، وتصادف ولعي بهما من خلال تجربتي في مجنون ليلى وطرفة بن العبد، وتضاعف هذا الهاجس مع قراءتي للتراث، ويتابع "كلما تقدّم الإنسان في السنّ والتجربة، تكون قراءته للتراث قابلة للتطور والتعمّق ويكون مرشحاً لاكتشاف الجواهر في هذه المناجم".
عقب الأمسية، أجاب الشاعر عن سؤال حول تنوع تجربته بين الشعر والسرد وقربه من التشكيل، منذ إعلانه مع زميله الكاتب أمين صالح عن "موت الكورس" في عام 1986، أكّد حداد بأنه لا يثق بأي شكل من أشكال الكتابة، وما يهمه هو الاستمتاع بالكتابة أيّاً كان شكلها، مضيفاً أن تجربته مع صالح في "الجواشن"، فتحت له آفاقاً جديدة ونوعية في الكتابة، وإن ما يحاول الوصول إليه هو "التجاوز وإشباع لذّة الاكتشاف وتلمّس الطريق في الكتابة".
بدا حداد قبل قراءة نصوصه مشحوناً، وفي ما يشبه "المانيفستو" قال :"إن الشعر هو الشرفة الوحيدة للإنسان العربي بعد أن فقد كل مزاعمه، فالشعر هو الرثاء العميق لما نفقده اليوم وهو -أي الشعر- دلالة إيجابية علّها تجعل المؤسسات بكافة أشكالها، تعي دور الثقافة والمعرفة في بناء الإنسان والحضارات".
وأضاف: "إن سبب الخلل الذي نعانيه هو غياب معرفتنا بالشعر والإبداع الإنساني الذي يتصل بالحرية، وهو السبب الذي يجعلنا مرشحين للمزيد من التخلّف إذا تخلّينا عن الشعر والإبداع، نحن متخلّفون لأننا مذعورون وممنوعون من التخيّل والإنتاج الحضاري". وأكمل "إن الكارثة الحقيقية هي في مصادرة ما تبقّى لنا في هذه الحياة من شعر وإبداع، وهذا ما لا تستطيع المؤسسات السلطوية أن تصادره منا".
وكان حداد قد قرأ نصوصاً من مجمل تجربته الممتدة قرابة نصف قرن، ومرّ على "الوقت"، و"خطّاطون"، و"طرفة بن الوردة"، و"ما البحرين"، و"حجاز"، و"الندماء"، و"مديح النعش"، و"القراءات"، وأنهاها بـ "رقصة الغجر":
"كان الرمل حبر كتابهم
وخيامهم بيتُ القصيد
وكان شعر الخوف نجمهم البعيد
أقرأ خطوهم
كي أُخطئ التفسير في ليل الكتاب".
فان غوغ وأكاديمية العزلة
كتب قاسم حداد مجموعته "أيها الفحم، يا سيدي، دفاتر فنسنت فان غوخ"، خلال إقامته في "أكاديمية العزلة" في ألمانيا. وقبل أيام، حاز عنها جائزة "أبو القاسم الشابي".
كان حداد قد تعرّف على تجربة الفنان الهولندي أول مرة في السبعينيات، حين خصصت مجلة "الهلال" ملفاً عنه.
يقول حداد: "من يومها يسكنني هذا الفنان، في لوحاته التناقض الغريب بين حبّه للحياة وعذاباته في الواقع، كان يرسم لوحة مشعّة بالشمس والحقول والليل المضاء بالنجوم مع تكثيف حاد لضربات الفرشاة أو السكين، لدرجة أنك تلمس نفور اللون وكثافته. حين شاهدت أعماله الأصلية ذهلت، ولامستني روحياً، ومن هذه الرحلة الفيزيائية أنجزت الكتاب".