قبعات بيضاء في زمن أسود
ثمّة لغط يدور سنوياً عند اقتراب ترشيحات جائزة نوبل، وموعد إعلان الفائزين بها، وبعده. اللغط يطال تحديدا جائزتي نوبل للأدب والسلام، إذ ثمّة معايير مجهولة توضع أحيانا بما يخصهما، معايير في أغلبها متعلق بالسياسة، لا سيما في جائزة السلام، فمفهوم السلام يختلف من شعب إلى آخر، ومن ظرف إلى آخر، ومن وقت إلى آخر، فمن غير المفهوم أن تمنح نوبل للسلام لمنظمة حظر الأسلحة الكيميائية مثلا، بينما يستخدم هذا السلاح دائماً ضد شعوب العالم الثالث، من دون أن يرفّ جفن للمجتمع الدولي. ومن غير المفهوم أن تمنح هذه الجائزة مناصفة بين مسؤولين عرب وإسرائيلين، بذريعة توقيعهم اتفاقيات سلام تحت الرعاية الدولية، في وقت تفتك فيه إسرائيل بالفلسطينيين والعرب، من دون أن تهتز شعرة في ضمير العالم المتحضّر. ومن غير المفهوم أن تمنح الجائزة لرئيس أميركي، يعلم العالم بأجمعه، أن بلاده صاحبة اليد الأولى في إشعال الحروب الأهلية في بلدان العالم الثالث، كما هي اللاعب الأول لكل السياسات القذرة التي تدعم حكم الطغاة والدكتاتوريات العسكرية، وهي صانعة فكرة التنظيمات الجهادية التي باتت اليوم تشكل حالة الرعب القصوى لدى الرأي العام العالمي.
ولعل هذا ما يجعل اللغط يدور بشأن جائزة نوبل للسلام سنوياً، هذه الازدواجية بين ما أراده مؤسس الجائزة، ألفريد نوبل، ومن تمنح لهم، فمن المفروض أنه أرادها تكفيراً عن ذنب اختراعه الديناميت، الأصل في الأسلحة الحديثة التي لم تجلب للبشرية سوى الخراب والدمار، وسيطرة رأس المال العالمي على السياسة الدولية، عبر تحالفه مع مافيات تجارة السلاح في العالم. ولكن، عبر تاريخ الجائزة، لم تعط إلا لشخصيات ملتبسة، مشهورة ومعروفة. ولكن، ثمّة التباس حولها، إلا باستثناءاتٍ قليلة، كان حجبها عنها سيشكل فضيحةً للجنة الجائزة. هذا العام، تضم قائمة المرشحين لنوبل للسلام عدداً ضخماً من الشخصيات السياسية الدولية ونشطاء حقوق الإنسان ومنظمات حقوقية دولية وغيرها، منها مؤسسة الدفاع المدني في سورية، أو ما عرفت باسم أصحاب القبعات البيضاء، وهي منتشرة في أكثر من 119 نقطة توتر في الداخل السوري. ليس متطوعو هذه المؤسسة من الشخصيات المشهورة، لا يعرفهم أحد، ليسوا سياسيين، ولا كتاب، ولا مبدعين، ليسوا في أيٍّ من مجالات الشهرة.
هم من الشريحة التي تشكل العصب الأساسي لأي مجتمع، مدرسون، مهندسون، أصحاب مهن حرة، طلاب جامعات. هذه المؤسسة التي أصر عناصرها على البقاء في الداخل، أنقذت أكثر من ستين ألف سوري من الحصار والجوع والموت تحت الأنقاض. لا يعلم أحد أسماءهم، يعملون بصمتٍ، بعيداً عن الإعلام، ويتعرّضون لكل أنواع المخاطر، ومستهدفون من الجميع، ممن يقصفون المدنيين بالطائرات، أو ممن يحاصرون المدنيين.لا يظهرون انحيازاتهم السياسية، ولا انتماءاتهم الدينية والمذهبية، ولا ينتمون لأي تنظيم سياسي أو عسكري، ويترفعون عن كل ما يساهم في استمرار الموت والدمار والتشرّد.
هم معنيون، أولاً، بإنقاذ المدنيين من ضحايا هذه الحرب القذرة التي دمرت سورية، وشرّدت ملايين السوريين، ومعنيون حتى بإنقاذ المقاتلين السوريين وغير السوريين. معنيون بإنقاذ حياة الإنسان، بصفته إنساناً أولاً قبل أي شيء آخر. ومثل غيرهم، استشهد واختطف منهم كثيرون، وفقدوا، أخيراً، في المعارك في حلب وما حولها خيرة عناصرهم، لاسيما في أثناء القصف الروسي على شمال سورية.
تشكّل هيئة الدفاع المدني السورية الحالة المثلى لما يمكن أن يعنيه مفهوم السلام في هذ العالم المتفجر كراهيةً وعنفاً وحروباً. وربما لو كان ألفرد نوبل مازال حيا، لقال: هذا هو تماماً ما عنيته. هؤلاء الذين ينقذون البشر مما ارتكبه اختراع الديناميت! هل تفعلها مؤسسة نوبل السويدية، هذا العام، وتنقذ سمعتها السياسية، وتمنح جائزتها للسلام لهؤلاء المتطوعين المجهولين الذين لم يسمع بأسمائهم أحد، وتكفّر بذلك عن ذنب العالم الصامت عن الموت السوري، وتكفر أيضاً عن ذنب الحكومة السويدية، صاحبة الصدارة في بيع السلاح لحامليه في سوريه من مختلف الأطراف؟