قبل أن يزحف النسيان:
العم صلاح وتلفزيونه اللعين (1/2)
(1)
كانت سيرة ذلك التلفزيون القديم الضخم المتهالك تجلب دائماً السخرية المشيعة للبهجة، لكنها قَلَبت في الآخر بغمّ مبين.
على الرغم من شكله الذي لا يسر الناظرين، كان لذلك التلفزيون مكانة خاصة لدى الفنان الكبير صلاح السعدني (أبي الذي لم تلده ستّي كما أدعوه دائماً)، فقد كان أول تلفزيون يشتريه في حياته، ولأن العِشرة لا تهون إلا على أولاد الحرام، فقد قرّر العم صلاح، حين انتهى عمر تلفزيونه الافتراضي في مطلع التسعينات، أن يخرجه من منزله في القاهرة، حيث كان يمكن أن يتعرّض للأذى المادي من أبنائه، والأذى المعنوي من أصدقائه، ليحتفظ به إكراماً لشيبته، في شقته القديمة بالإسكندرية، والتي منذ أن عرفته في منتصف التسعينات، لم يكن يذهب إليها، إلا حين يدعوه إلى اللقاء هناك، صديق عمره وجاره في العمارة نفسها، عمنا أسامة أنور عكاشة، وأنا بالطبع لم أكن أفوّت أبداً أي فرصة تسنح لي لأذهب بصحبته في طلعات كهذه، كنت أنعم فيها بصحبة بعض من أجمل خلق الله وألطفهم.
حين قلت لعم صلاح، مرّة، إنني سأجبره على التخلص من ذلك التلفزيون العجيب، ليصحو من نومه فيجدني وقد بعته لأول بائع روبابيكيا يمر بالجوار، حذّرني جادّاً من تهديده في واحدٍ من أعز ما يمتلك من ذكريات أيام الكفاح، قبل أن يشكّك في وجود بائع روبابيكيا فاقد للتمييز، إلى حد يجعله يقبل الحصول على التلفزيون، ولو مجاناً، ولم أكن أعلم أن الأيام ستثبت له بعد أقل من شهرين أن هناك من سيعتبر ذلك التلفزيون مطمعاً يستحق عناء السطو عليه، إلى درجة أنه قرّر ألا يسرق من شقة العم صلاح غيره، أو لنقل أنه لم يجد فيها ما يمكن له حمله غيره، فقد كان ذلك التلفزيون، على الرغم من ضخامته، أخف وزناً من السراير والكنب، لكنه كان بالتأكيد أثمن قيمةً من أدوات المطبخ المهجورة وكراسي السفرة العتيقة.
اكتشفنا السرقة بعد فترة وجيزة من وقوعها، فقد كانت تلك الزيارة الثانية لنا خلال أسبوعين، وهو ما لا يحدث كثيراً. في البداية، وقع قلب بواب العمارة بين رجليه، حين عنّفه عم صلاح على إهماله في حراسة العمارة، لكنه حين عرف أن التلفزيون إياه كان الضحية الوحيدة لعملية السطو، أفلت منه تعليق تلقائي من نوعية: "الحمد لله، يا بيه، إن ربنا بعت لك اللي يخلصك من التلفزيون ده"، ورد فعل العم صلاح الغاضب، جعله يدرك أن التلفزيون كان عزيزاً حقاً على قلبه، فانهار تحت وطأة البستفة، معترفاً أنه أخطأ حين ترك العمارة ليلة واحدة فقط قبل أيام، حين استوجب ظرف طارئ عودته إلى البلد، ولكي يخفف من أثر الاعتراف الذي يجعله مسؤولاً عما جرى، تحرّك بسرعة مربكة بين بابي الشقة والبلكونة، وبعد أن تقمّص شخصية محقق جنائي، أقسم برحمة أمه أنه متأكد أن الحرامي لم يدخل إلى الشقة من بابها، بل من بلكونة الدور الأول المطل على الكورنيش، مستدلاً بسلامة كالون باب الشقة الذي يصعب فتحه، في حين يسهل فتح باب البلكونة، كما أن من الأسهل إنزال التلفزيون إلى الشارع بحبل، ليتلقفه شريكٌ ما في عربية نقل، في حين يستحيل النزول به على السلم إلا في حالة "شيله مرابعة"، وهو ما يمكن أن يلفت انتباه الجيران بسهولة، لم يشاركني عم صلاح الإعجاب بموهبة البواب الجنائية، فقطع تدفقها، مخبراً البواب أن يوفر سرد رؤيته لضباط المباحث الذين سنذهب إليهم حالاً لعمل محضر سرقة، ليتجمد البواب مفزوعاً، ويقول بصوت متحشرج "ليه كده بس يا بيه.. كل ده عشان التلفزيون القديم ده يا بيه".
كانت عبارة البواب ناضحة بانفعال صادق، جعل عم صلاح يقرّر، فجأة، أن يشرح له منطقه في أهمية الإبلاغ عن السرقة، لكي لا يظن بشخصه بخلاً، أو بعقله سوءاً، قائلاً له إن خطورة واقعة السرقة لا علاقة لها بطبيعة المسروقات وقيمتها، بل بكون العمارة أصبحت هدفاً للسرقة، ما قد يجعل السارق يكرّر زيارته شققها في الأدوار المختلفة، لو أدرك أن سكانها لا يلقون بالاً لما يُسرق منهم، والبواب لم يكن في حالةٍ تؤهله للاقتناع بأي وجهة نظر، لأن أعراض ذعرٍ بيّنة كانت قد انتابته، جعلته يستحلف عم صلاح بكل ما هو غالٍ لديه أن يصرف النظر عن موضوع المحضر، لأن الإبلاغ عن السرقة، سيجعله المتهم الأول في نظر ضباط المباحث الذين سيتسلون عليه حتى ينتزعوا منه اعترافا بجريمة لم يرتكبها، وقبل أن يفتح عم صلاح فمه معلقاً انهار البواب في نوبة بكاء حادة، مقسماً بكل المقدسات التي تخطر على البال، أنه لن يكرر ثانية الغياب عن العمارة تحت أي ظرف. وحين حاول عم صلاح تهدئته، بالتأكيد على استحالة أن يسمح بتعرضه لأي أذى، مقسماً أنه لن يخرج من القسم إلا بصحبته، رد البواب المذعور على الفور، برواية واقعة تعرّض فيها بواب من بلديّاته للكهربة والمرمطة والبعبصة، لكي يعترف بالاشتراك في سرقة وقعت في عمارته، ويقرّ على مكان المسروقات، من دون أن تنفع مئات الحلفانات المبينة في إقناع باشوات القسم أنه بريء من تلك السرقة، براءة الذئب من دم ابن يعقوب، ليتضح بعد شهور من رميته في السجن، أن زوجة الساكن المسروق هي التي سرقة زوجها، انتقاماً من لعبه بذيله.
لم يكن ممكناً أن يستمع عم صلاح إلى قصة كهذه، رويت بتماسكٍ دراميٍّ مدهش، مصحوب بنشيج حاد ورجفة واضحة للعيان، وإفرازات أنفية غزيرة، ثم يمضي في إصراره على الذهاب إلى القسم، ظلّ لحظات صامتاً، وهو ينظر بإشفاق إلى البواب الذي يرتعش باكياً، وحداثة سني جعلتني أتدخل لتخفيف توتر الموقف، بأن أقول لعم صلاح مداعباً، إن الموضوع لا يعقل أن يكون وراءه سرقة، فأغلب الظن أنها عملية خطف قام بها من يعرف غلاوة التلفزيون لديه، وإنه يجب أن ينتظر مكالمة طلب الفدية في أي وقت، والشحنة العاطفية التي كانت تملأ الصالة، جعلت رد عم صلاح، يخلو من شتائم توقعتها، ليقول بجدية أربكتني لحظات: "عندك حق والله.. بس لو حد عمل كده مش هيبقى غيرك.. وعشان كده هنطلع حالاً أنا والراجل الطيب ده نبلغ عنك في القسم، لغاية ما تقر على مكان التلفزيون". والبواب الوغد أقنعته نبرة الجدية المصطنعة بإتقان، فنسي تعاطفي الكامل المعلن معه، ليكتسي وجهه الباكي بضحكة ارتياح، لأنه وجد أخيراً من يزيح عنه البلاء، لكن ضحكته سرعان ما توارت حين قال له عم صلاح بحزمٍ شاخط، إنه قرر ألا يبلغ البوليس لكي لا يعرّضه لأي أذى، لكن الواجب يحتم عليه إبلاغ سكان العمارة بما حدث، لكي يأخذوا حذرهم ويراقبوا أداءه عمله، لكي لا يتسبب تراخيه في مشكلات أشد ضرراً لهم.
(2)
في الأشهر التالية لواقعة السرقة، ظل التلفزيون الفقيد مثاراً لمزاح سهراتنا في القاهرة، إلى جوار كنبة العم صلاح، متعه الله بالصحة والعافية، وأذكر أن أول وصلة سخرية، انتهت بمونولوج حزين، بثنا فيه عم صلاح حنقه الشديد، ليس فقط لأنه تعرّض للسرقة أول مرة في حياته، بل لأن المسروق كان ذلك الجهاز العزيز الذي كان أول بخته في الحياة الدنيا من الأجهزة الكهربائية، حيث اشتراه من أول مرتب قبضه مديراً لفرقة الفنانين المتحدين، وهي الوظيفة الإدارية الوحيدة التي شغلها مضطراً، بعد أن تم منعه من التمثيل في عهد الرئيس أنور السادات، تأديباً له لأنه وقّع على بيان للمثقفين والفنانين، والذي يدين حالة اللاحرب واللاسلم التي شهدتها مصر في (عام الضباب) الذي سبق حرب أكتوبر 1973، وانتقاماً في شخصه من أخيه الكاتب الكبير محمود السعدني الذي غضب عليه السادات، بسبب نكتة "أبيحة" قالها عنه في مكالمة تلفونية مع شعراوي جمعة، وتم رفع تسجيلها إلى السادات، ليدخل السعدني الكبير السجن، ثم يخرج منه إلى المنفى، ويتعرّض صلاح لبطالة إجبارية، كان يمكن أن تصبح نتائجها كارثية، لولا تضامن أصدقائه في فرقة الفنانين المتحدين، وفي مقدمتهم المنتج سمير خفاجي وصديقا عمره عادل إمام وسعيد صالح اللذين وفرا له تلك الوظيفة الإدارية، ليستطيع الإنفاق على نفسه وأسرته طوال سنوات الحرمان الإجباري من التمثيل، والتي لم تنته بالنسبة له إلا بعد بدء ظاهرة هجرة الفنانين إلى استديوهات الخليج وتونس واليونان، لتصوير عشرات المسلسلات الدرامية، ليستأنف تعاونه مع الأساتذة نور الدمرداش وإبراهيم الصحن وفخر الدين صلاح وإسماعيل عبد الحافظ ومحمد فاضل، وتبدأ رحلة صعوده التلفزيوني المشرقة والمشرّفة، والتي تخلى فيها عن أجهزة كهربائية كثيرة، إلا ذلك التلفزيون العزيز على قلبه، والذي كنا نظن أن سرقته ستخفيه إلى الأبد، لكن ذلك لم يحدث.
(3)
كان العم صلاح يعرف أنني لن أشاركه الابتهاج العارم بعودة التلفزيون المسروق من غيبته، وحتى وإن أبديْت ابتهاجاً ما، فذلك لن يكون من قلبي. ولذلك، لم يخبرني بظهور التلفزيون من جديد، حين أيقظني ذات صباح باكر من صباحات عام 1999، ليدعوني لمشاركته في رحلة عاجلة إلى الإسكندرية، لم يكن لديّ يومها ما يشغلني، فقد كنت لا أزال أعاني من آثار بطالةٍ أعقبت تركي للعمل محرراً عاماً لصحيفة (القاهرة) عقب خلاف حاد مع عم صلاح آخر، هو الأستاذ صلاح عيسى (أروي وقائعه في مقالات قادمة ضمن هذه السلسلة من الذكريات) ولأني لم أكن أمتلك أيامها مبلغاً محترماً، يسمح لي بالعودة إلى بيتنا في الإسكندرية، من دون أن يظهر عليّ بؤس يجلب لي سيلاً من النصائح واللوم والتقطيم، فقد ظننت أن تلك السفرية المباغتة ستكون حلاً رائعاً، لإنجاز زيارة خاطفة للاطمئنان على الأهل، من دون أن أنسف ما تبقى لديّ من مدخرات لا تكاد تكفي لمخر عُباب الحياة، لكن عم صلاح أطاح بِشري الطافح، حين قال إن مشوارنا إلى الإسكندرية، هذه المرة، سيكون "صدّ ردّ"، وإننا ذاهبون للاطمئنان العاجل على صديق قديم يمر بأزمة مرضية خطيرة، وإنه قرر أن ينعم علي بمشاركته في أجر زيارة المريض، بدلاً من الاستمرار في ملازمة "الإيد البطالة النجسة"، وبعد أن لمح في صوتي زمزقة، قد تفضي إلى بوادر "خلعان" من المشوار، زفّ إليّ بشرى مفادها أننا سنتغدى بعد أداء واجب ذلك المشوار مع "عمك أسامة عكاشة"، وسنعود معه إلى القاهرة. وبالطبع، كان العم صلاح يعرف أن ذكر ذلك الوعد كافٍ، لكي أقول له إنني سأكون جاهزاً للإقلاع خلال نصف ساعة بالكثير.
(4)
لا يشكو من الملل، من يرافق صلاح السعدني في حلّ أو ترحال، ومع أنني تعودت على أن آنس منه البهجة في الغالب الأعم، إلا أنه كان في تلك السفرية شديد الابتهاج، بشكل وجدته غير متسق مع قلقه المفترض على صديقه الذي يعاني من حالة صحية خطيرة، ما دفعني لسؤاله عمن يكون ذلك الصديق الذي لم يذكر لي اسمه في البدء، ثم ذكر اسماً غريباً على مسامعي، وحين قلت إنني أسمع ذلك الاسم أول مرة، خصوصاً وأنا أعرف كل أصدقائه السكندريين، قال إنه صديق قديم عائد للتو من هجرة طويلة في كندا، لكي يموت في الإسكندرية، وقبل أن أشم رائحة التأليف الفوري التي كان واضحاً أنه فقد استمتاعه بها، أدار شريطاً يضم أغنيات كان قد كتبها عمنا سيد حجاب، ولحنها الملحن الجميل فاروق الشرنوبي، خصيصاً لمسلسل (عمو عزيز)، الذي كان كان قيد الإنتاج وقتها، وقد تكفلت أول أغنية سمعتها بإيقافي عن مواصلة الأسئلة، لأنني ظللت أديرها، مراتٍ، للاستمتاع بها، وحين عرفت أن عم صلاح هو الذي سيغني تلك الأغنية، نصحته صادقاً بألا يفعل ذلك، وأن يترك غناء أغاني المسلسل لفاروق الشرنوبي الذي أحببت صوته في غناء ألحانه. وبالطبع، جاء رد العم صلاح متجاوباً مع النصيحة "وإنت إيش فهمك أصلا في الغنا"، ليبدأ بعدها في غناء الأغنية التي أعجبتني، بشكل لم أجد سبيلاً لمقاومته، إلا أن أقرر أنا أيضاً غناءها معه، رافعاً صوتي ليعلو على صوته وصوت فاروق الشرنوبي، ويبدو أنه رأى، في لحظة التحدي تلك، دافعاً لكي يخبرني أننا لسنا ذاهبين لزيارة مريض قادم من كندا، وأننا لن نلتقي بالعم أسامة الذي يوجد أصلاً في القاهرة لمتابعة مسلسله (لما التعلب فات)، بل نحن ذاهبون في الحقيقة لاستعادة تلفزيونه الحبيب الذي رد الله أخيراً غيبته.
(5)
كيف حدث ذلك، ومتى وأين ولماذا؟، تتالت أسئلتي التي تنازعها الغيظ والدهشة، فلجأ إلى بدء إجابته على أسئلتي، بإكليشيه درامي محبب إلى النفس عن "المال الحلال اللي عمره ما يضيع"، قبل أن يحكي بفخر عن اتصال مفاجئ تلقاه من ضابط في العلاقات العامة في مديرية أمن الإسكندرية، زفّ إليه بشرى القبض على لص منازل عتيد، دأب على ممارسة نشاطه في منطقة سيدي بشر، وما جاورها، وأن اللص قال، ضمن اعترافاته التي تدفقت ببركات رجال المباحث البواسل، إنه سرق شقة العمدة سليمان غانم في إسكندرية، وللحظات لم يفهم أحد من الضباط والمخبرين أنه يقصد شقة صلاح السعدني، إلا بعد عدد من الأقلام والأقفية. وهنا حكى الضابط للعم صلاح، وهو غارق في الضحك، كيف روى لهم اللص المعكوش خيبة أمله في شقة "بتاع التمثيليات"، التي كان يمني نفسه بأنها ستريحه من الشغل عدة أشهر، ليفاجأ بأنها من أتعس الشقق التي مرّت عليه في مشواره المهني، وأنه اضطر لسرقة التلفزيون الثقيل القديم، لكي لا يعود إلى بيته خاوي الوفاض، وأنه كاد يقع على سلالم العمارة فتنكسر رقبته وهو يحمل التلفزيون "اللي قد الداهية" (قضى ذلك الاعتراف على إعجابي بقدرات البواب الجنائية)، مضيفاً أن كل محاولات بيع التلفزيون فشلت، خصوصاً أن أحداً لم يصدقه، حين كان يقسم أنه تلفزيون ممثل شهير. ولذلك، كان تلفزيون العم صلاح من المسروقات القليلة التي تم ضبطها في شقة لص المنازل، بعد أن وقع في أيدي البوليس، بفعل وشاية عشيقة غاضبة.
بعد أن التقطت أنفاسي من ضحكٍ، كنت أظنه لن ينقطع أبداً، عرفت أن مشوارنا العاجل إلى الإسكندرية، سينتهي بنا تحديداً إلى النيابة، حيث يفترض أن يتعرف العم صلاح على تلفزيونه، القابع في أحد مخازن مجمع النيابات في المنشية، ضمن أحراز القضية التي يحاكم اللص التعيس عليها، وهي معلومة لم يعرفها العم صلاح، إلا بعد أن طلب منه الضابط، أولاً، أن يدلي بأوصاف تلفزيونه المسروق، ليبدو أن الضابط، كان حتى وقت اتصاله، يظن قصة اللص نخعة من نفحات الكودافين أو البارمولار. وهنا، روى العم صلاح للضابط طرفاً من أخبار علاقته الإنسانية الوطيدة بالتلفزيون، فبدا الأمر مفهوماً، إلى درجة أن الضابط وعد العم صلاح بأن يرتب له إن أراد، لقاءً إنسانياً مع سارق تلفزيونه، ليفهم منه دوافعه التي أفضت به إلى ارتكاب فعل أحمق كهذا، وهو لقاء بدا لي أنه فرصة ذهبية لكتابة حلوةٍ، أسجل فيها تلك اللحظات الملحمية، لكن أملي خاب، بعد أن قال عم صلاح إن إصرار الضابط على تصوير اللقاء، جعله يرفض الفكرة، مكتفياً بمغنم عودة تلفزيونه إلى أحضانه من جديد.
(6)
وقتها، لم يكن صناع التلفونات المحمولة قد أدمجوا فيها الكاميرات. ومع ذلك، حرص عم صلاح على الاتفاق مع الضابط الذي سيستقبله على الإسراع بإنجاز العمليات القانونية المطلوبة، لنتمكن من العودة في أسرع وقت إلى القاهرة، بعد استعادة التلفزيون الذي قرّر تكريمه، بوضعه في مكتب شركة الإنتاج التي كان قد افتتحها، وبدأ أعمالها بإنتاج ذلك المسلسل الذي كان عمل الشركة الأول والأخير، لكن عم صلاح اكتشف، عقب أن اجتمع شمله بالتلفزيون، أن لم الشمل ذاك كان مؤقتاً، لأن الإجراءات تقتضي ألا يتم تسليم الأحراز للضحايا المسروقين، إلا بعد أن يصدر حكمٌ بات في القضية، وخصوصاً أن أي عبث بالأحراز تحت أي ظرف يمكن أن يتخذه محامي اللص ذريعة لتشريك القضية، وهو ما لم يكن لدى عم صلاح مانع فيه، لو كان سيعجل استعادته لتلفزيونه، لكن ذلك لم يكن سيرضي ضباط المباحث الذين قبضوا على اللص، والذين سينال كل منهم بالطبع مكافأة وترقية، لأنه قبض على لص خطير سرق شقة فنان شهير، بغض النظر عن كنه تلك المتعلقات التي يتحتم تكهينها.
لم أحضر للأسف لقاء لم الشمل القصير، لأن دخولي إلى مخزن الأحراز لم يكن مسموحاً به، خصوصاً أنني وقتها كنت صحافياً عاطلاً عن العمل، ومشروع جنين سيناريست، فلم يكن لدي ما يمكن أن يساعد عم صلاح، أن يستخدمه في إقناع الضابط بضرورة دخولي، إلى ذلك المكان "الدرامي" الذي كنت أتوق لرؤية شكله، لكن أسفي على عدم دخوله تضاءل، حين قال لي عم صلاح إن المخزن لم يكن به أي عناصر للتشويق الدرامي، بل كان فيه أكبر مجموعة ممكنة من الأجهزة الكهربائية والمنزلية، كان تلفزيونه بالطبع أقدمها سناً، ومن أضخمها حجماً، وأنه حين تفحصه أكبر في اللص حرصه على الحفاظ عليه، فلم يكسّره، مثلاً، في لحظة يأس من بيعه، بل كانت المفاجأة السارة أن اللص أصلح عيباً فنياً فيه، لم يكن عم صلاح مهتماً بإصلاحه أصلاً. وبالطبع، لم يفعل اللص ذلك تعاطفاً مع التلفزيون، بل رغبة في تحسين ظروف بيعه الذي لم يتم.
كان العم صلاح مستاءً، لأن مشوارنا إلى الإسكندرية لم يحقق نتيجته المرجوة، وخلال سيرنا إلى مكتب وكيل النيابة الذي يتابع القضية، للإدلاء بأقواله، أخذنا نفكر في اقتراحات لقضاء وقت لطيف ساعتين أو ثلاثة، قبل العودة إلى القاهرة، وبدأ العم صلاح في الاتصال بعمنا سيد حجاب، وعمنا المستشار محمد صفاء عامر، اللذين كانا يقيمان في الإسكندرية أغلب وقتهما، لمعرفة أيهما يمكن لنا لقاءه، بعد أن ينتهي من الإدلاء بأقواله، قبل أن يعرف أن دخول مكتب وكيل النيابة لن يكون أبداً زي خروجه، وأننا سنكون بعد قليل على موعد مع واحدة من ألعن وأضل التجارب التي مرت على كلينا في حياته، على الرغم مما بيننا من فارق كبير في السن والتجربة والخبرة.
(7)
كان واضحاً منذ دخلنا إلى مكتب وكيل النيابة، أن هناك مشكلة ما تنغص صفو حياته، وتجعله عصبياً ومتوتراً وكارهاً كل ما ومن يحيط به، خصوصاً الممثل الشهير الذي جاء ليشغل وقته في قضية سرقة جهاز تلفزيون متهالك، والشاب الضخم رث المظهر الذي لم يتبين هل هو حارس السعدني الخاص، أم سائقه، خصوصاً أنه، كما يبدو، من تعبيرات وجهه المشمئنط، لم يصدّق أنني ابن أخت العم صلاح، كما قال له السعدني دفعاً للحرج، حين لاحظ نبرات الجفاء التي تكسو سؤاله عمّن أكون، وعن سبب وجودي في قضية كهذه لا تخصني.
حتى ذلك الحين، كان وكيل النيابة ذلك، أول شخص أراه يعامل صلاح السعدني بجفاء بالغ، لا يبذل حتى جهداً في تلطيفه أو إخفائه، وهو ما كان مربكاً للغاية لعم صلاح الذي كان يُعامل، دائماً، بحفاوة شديدة، وبالتأكيد مستحقة، لفنان كبير ومحبوب، لم يتورّط أبداً في فعل مشين أو مستفز للناس، بل ولم يكن أحد يراه في غير أعماله التمثيلية، بحكم نفوره من الحوارات الصحافية والبرامج التلفزيونية، ما يقلل فرصة أن يكون وكيل النيابة، مثلاً قد غضب منه بسبب تصريح مخالف له في الرأي.
بعد قليل، قللت الألفاظ البذيئة التي وجهها وكيل النيابة لطرف مكالمة تلفونية جاءته، من احتمالية أن يكون لديه موقف متشدد دينياً من الفن، خصوصاً وأننا لم نكن قد دخلنا وقتها العصر الذي يمكن أن ترتبط فيه عبارات مثل "يا شراميط يا أنجاس"، بمن يدعون الغيرة على الدين ويحرّمون الفن المفسد للأخلاق، ليتبقى لي احتمال أكثر منطقية وواقعية لذلك الجفاء المزعج، هو أن حظنا وقع في وكيل نيابة كاره لنفسه مبين، لا يكن كراهية للمشاهير من الفنانين وحدهم، بل لكل مخلوقات الله التي تمر في مجاله الحيوي، سواءً كانت مترددة للشهادة أو الاتهام أو الدفاع أو أشياء أخرى تذكر.
كنت وحدي المشغول بمحاولة فهم دوافع ذلك الجفاء الذي أبداه وكيل النيابة تجاه العم صلاح، أما العم صلاح نفسه فقد أذهلني بقدرته على تطنيش كل الاستفزازات التي كانت تعلنها لغة جسد وكيل النيابة ونبرات صوته وحركاته المتقافزة ما بين شباك المكتب وسماعة التليفون وجرس استدعاء عامل البوفيه والكرسي الذي يستقر عليه، لاستئناف أخذ أقوال المجني عليه، وهو هنا العم صلاح صاحب التلفزيون المسروق، والذي رد على كل الأسئلة بهدوء شديد. وحتى حين كان يوجه له سؤال مكرر، لم يكن يرد بعبارات من نوعية "سبق أن أجبت على هذا السؤال"، أو "زي ما قلت قبل كده"، بل كان يعيد إجابة السؤال بطريقة هادئة، جعلت الكاتب ينظر، أكثر من مرة، إلى ملامح وكيل النيابة، ربما لكي لا يُحرم من رؤية مشاعر الغيظ التي تعتريه، بسبب أداء عم صلاح الذي تقمّص فجأة شخصية مصطفى فهمي أو محمود قابيل، في مسلسل بطيء الإيقاع، ليصل إلى ذروة ذلك الأداء، حين أخذ يجيب بجدية على سؤال وجهه له وكيل النيابة حول أوصاف التلفزيون المسروق، فأخذ يصف "تلفزيونه الحبيب" بما يشبه طريقة مندوبي إعلانات شركة تميمة للتسويق التلفزيوني التي كانت رائجة وقتها. ولكن، بإيقاع هادئ وصوت منضبط، مصمماً على أن يستخدم اسم (التلفاز) في أثناء كلامه، "يتميز التلفاز بتصميم كلاسيكي فريد، يعطيه طابعاً مهيباً، لكنه، في الوقت نفسه، لا يسرق عين المشاهد بعيداً عن إطاره الفضي العارض لصورة الإرسال الواصلة إليه"، وكلام كثير من هذا القبيل، كان يدخل فعلياً في بند الهذر، لكن يستحيل، في الوقت نفسه، وصفه رسمياً بالهذر، لأنه يمثل إجابة على سؤال رسمي، ينبغي على من طلبها أن يتحمل سماعها، وأيضاً تدوينها، وكان واضحاً أن طريقة العم صلاح جعلت وكيل النيابة يتميز غيظاً، ويدرك أن مهمة استفزاز هذا الممثل لن تكون سهلة أبداً. ولذلك، قرر أن ينهي استجوابه في أسرع وقت ممكن، لكي ينزل علينا بالقاضية.
ونكمل غداً بإذن الله، رواية كيف قلبت تلك الحكاية فجأة بغم مبين.
belalfadl@hotmail.com