في منتصف تلك الليلة، تردّد صوت نحيب مرير عند مشارف القرية، قام التوسي والتفع بثوبه، فزعت المرأة يانزونغ ونزلت عن الفراش، بدا واضحاً لها أن تلك البقعة المظلمة مليئة بالأشباح، أخذ التوسي يسعل وهو واقف عند رأس السرير، في أقل من لمح البصر كانت دروب القرية مضاءة بالفوانيس، بينما أوقدت المشاعل عند الأطراف.
طلع التوسي مستنداً إلى حافة السياج في الطابق الثالث، مدّ بصره تجاه الحوش يستطلع ما يجري، بان وجهه واضحاً وقد انعكست عليه أضواء المشاعل، نادى في أشباح الواقفين، قال: "أنا التوسي ماي تشي، الواقف هنا أكلمكم.. إذا كان وجهي غير مرئي بوضوح فهأنذا.. أقول لكم مرة ثانية إني أنا التوسي ماي تشي، بشحمه ولحمه يكلمكم!".
من وسط الضباب الكثيف في عتمة الحوش، برزت أشباح ركعت على الأرض، لما سمعت الصوت المجلجل في الأعالي. اتضح في غبشة الليل أنهم ثلاثة أشخاص: امرأة وولدان.. زوجة توجي تسيرن القتيل وابناه.. من خلفهم تدلت جثة فقيدهم فوق خشبة الإعدام وهي مقلوبة، إذ تدلى الرأس إلى أسفل وهو يهتز مع دفقات الريح.
صاح أبي بصوته العالي: "كان المفروض أن أقضي عليكم جميعاً.. هذا جزاؤكم عندي.. من أراد منكم الفرار فليهرب بجلده من الآن.. ولعلمكم، إذا رأيت أحداً منكم بأرضي بعد ثلاثة أيام فلن يجد في قلبي رحمة.. قد أنذرتكم فلا تلوموا إلا أنفسكم". جلجل صوته كدمدمة زلزال في جنبات القرية.
من بين الأشباح الراكعة في الحوش المعتم تردّد صوت صبي صغير، يافع، أخضر العود، قال: "حضرة التوسي، قل لهم أن يقربوا الفوانيس من وجهك، كي أدقق النظر إليك، وأحفظ صورتك!".
"هذا طبعاً لأنك تخشى أن تأخذ بثأرك من وجه آخر، على سبيل الخطأ.. اقترب إذن.. وانظر في وجهي ملياً، على راحتك".
"نعم، سيدي، أراك الآن بكل وضوح الصورة.. لك الشكر!".
ضحك أبي وهو في مكانه العالي، قال: "ليكن في علمك، يا بني، أني قد أخدعك وأموت قبل الأوان، هذا بعد إذنك طبعاً!". لم يرد عليه أحد من الحوش السفلي، اختفى الثلاثة وسط الظلام الدامس.
ما كاد أبي يلتفت عائداً إلى حجرته حتى لمح أمي تطل عليه من ركنها الهادئ عند السياج العلوي. أسعدها جداً أن تراه وهو يمط رقبته، يرفع رأسه عالياً متطلعاً إليها وهي في مكانها السامق، أعلى منه، كانت تتكئ على الحاجز الخشبي الأملس وتقول له: "من الغريب جداً أنك لم تقتلهم".
كان في استطاعته أن يرد عليها مستنكراً فكرة القتل بأن يقول لها مثلاً إن قلبه ليس متحجّراً إلى هذه الدرجة، لكنه غمغم قائلًا: "أوووف.. رأسي متعب جداً.. تعبت وأريد أن أنام".
أمي أسرعت تقول له: "كيف يهنأ لك نوم، وقد سمعتهم بأذني هاتين يصبون على رأسك اللعنات؟". عندئذٍ، كان أبي قد استعاد هدوءه فردّ عليها قائلاً: "طبيعي أن يضمروا لي السوء، أتتصوّرين أن أعداءك يمكن أن يتغنوا بالثناء عليك ومدح خصالك؟".
قالت له: "مالك، قد ضاق صدرك إلى هذا الحد؟ أنت التوسي الكبير، أمعقول أن امرأة واحدة تفسد عليك مزاجك هكذا بلعناتها الخفية؟ فماذا كنت تعمل إذن لو أضمرت لك الكراهية عشر نساء؟".
وإذ أصبحت اللهجة واضحة وصريحة، من دون لف أو دوران، فقد سكت أبي، أغلق فمه دون أن يقول لها شيئاً، وكانت المشاعل قد انطفأت شعلة وراء أخرى، وانسدل على القرية ظلام ثقيل تردّدت في جنباته ضحكات أمي العالية ريثما قالت له بصوتها الحلو، في قلب العتمة: "ارجع بسرعة، يا سيدي، لئلا تفزع الهانم الصغيرة.. وهي وحدها في الفراش!".
رد عليها بسرعة: "وأنت أيضاً.. ارجعي إلى حجرتك، فالرياح الليلة شديدة.. وأنت جسدك ضعيف.. لا يحتمل!".
* مقطع من رواية "سقوط الغبار" للكاتب الصيني آ لاي (1959). تصدر الترجمة نهاية العام عن منشورات "جامعة شيفان" في بكين
** ترجمة عن الصينية: محسن فرجاني