القراءة بما فيها المتعة: فعل إغواء وعلى الرصانة أو البلاغة أن تكون جسراً يربط بين هاويتين لا شَرَكًا يعطّل الطريقَ إلى تلك المتعةِ/ الإغواء، ربّما قالَ بورخيس ذلكَ وهو يُعري الكوميديا الإلهية لدانتي بفصوصها الثلاثة: الجحيم، المطهر، والفردوس، وربّما قال أحدٌ آخر في مكان آخر كلامًا شبيهًا بألف ليلة وليلة ومرَّ بلا التفاتةٍ كالتي حظي بها الشاعر الأرجنتيني.
ذلكَ أن مجسّاتنا الشعورية/ استدلالاتنا/ هوسنا بالمنجز/ ثقافتنا الاستهلاكية، العالكة لا المبتكرة، تجعلنا من حيث ندري ولا ندري في كسل عميم تجاه المقروء أو تجاه المنقود على حدّ سواء، ولا نمتلك في هذه الحال تلكَ الطاقة الجبارة من المجاملة وسماها أرنستو ساباتو بـ (الموهبة الفريدة) تلكَ التي تحت وطأة الخجل من مواجهة ذات كسولة تخرج مَجّسها الاحترافي في تشريحِ النص واكتشاف جماله، وبالتالي سنكون أمام قراءات عدة توسع للمتعلمين وتجعل المعلمين بهامش أكبر وهم يوجهون القراء الجدد.
لم أجد في حياتي ذلكَ المعلم، بل لم أتخيّل أن انتقاء كتاب يحتاج إليه، ما ضرورته؟ ما ضرورة المعلمين جميعهم إذا كنا قراء أغلفة وعناوين وننظر إلى حَفظةِ المعلومات ومخزنيها بوصفهم مثقفين وننظر إلى أصحاب التأتأة الخُلقية بأنهم معاقون ومتخلفون ولا يمكن لأحدهم الإتيان بجملة منطوقة واحدة مفيدة، وننظر إلى أصحابِ الشهادات العليا وتحت لمعة تحصيلهم العلمي نجدنا أميل إلى تصديقهم والأخذ برطانتهم على أن نأخذ بأنصافِ المتعلمين وإن كانوا أكثر دأبٍ على القراءة والنحتِ في المعرفة وبأساليبهم تلك التي تختلفُ عن المدرسي والأكاديمي بأنهم أقلّ شأنٍ، شأن لا يخضعُ للتفضيلِ والمقارنة، الأول لا يلقى النقد، تحملهُ مصطلحاتهُ الطويلة والكثيرة والتعمية الواضحة للتعلم على حساب الثاني بعلميته الأقل فهو سطحي ولا يرتقي لمستوى النقد، إنما هو عرضة لعدمِ القراءة والاكتفاء بالعنوان.
يبدو أن مقولة الرسالة مقروءة من عنونتها، صار لزامًا على متلقٍ جديدٍ دحضها، وفي القراءة النقدية التي تستوجب العنونة كعتبة دلالية فهي تستوجب المتن أيضًا وتعمل في تلك المساحةِ بفعالية أقصد بين العنونة وجوانية الرسالة/ الكتاب.
يقول وليم بليك: "يجب أن أخترع منهجًا، وإلا سأكون مستعبدًا بمناهجِ الآخرين، لن أفكر، أو أقارنَ، فعملي أن أبدع"، ما هي نسبة هؤلاء الذين يفكرون مثل بليك بيننا!، ثُمَّ إذا كان هناك ثمة نقاد قتلة ألا يوجد قراء قتلة بالمستوى نفسه مستعبدين ولهم آراؤهم النمطية أو المسبقة أو المبيّتة أصلًا بالتعاملِ مع الكتابةِ أي كتابة بالنظرِ إلى منتجها فإن كان مَرْضياً عنه قُرئ عنوانهُ -(فقط)- بالتهليل والمباركة وإن كان من خارج الجوقة قوبلَ بالرفض والنفي بل الاكتفاء بالعنونة وتسويقها على أنها جرم مقترف ويسم الكاتب باللا أخلاق نتيجةَ العنوان المخاتل، والذي لم يرده صانعه شَركَا لقارئ كسولٍ ربما له غايات مع نفسه قبل أن تكون له غاية مع الكتابة، كثر هم هؤلاء المرضىَ والموهومين وعلى الكتابة تحت وصفةِ (بليك) أن تتجاوزهم وتنحاز إلىَ تلكَ القراءة التي يصنعها المعلمون الحقيقيون.
كنتُ تعرفتُ القراءة منذ أن قرأت كتاب (25 رسالة حب) ومن ثمَّ كتاب (تعلّم الإنكليزية في خمسة أيام) وكتاب (فن الكاراتيه) وكتاب (استحضار الجان) وكتاب (النضال الفلاحي) ومجلة (المناضل)، وعندَ أول حب لي لم أستفد من الـ 25 رسالة بل أسندت مهمة كتابة الرسالة لصديق لي، وأغريت أخي الذي أصبح شرطيًا ومازال ويرتشي حتى مني بإيصال رسالتي إلى من (هواها) قلبي، لأكتشف فيما بعد أنه لم يوصلها، بعض الرسل لا يوصلون الرسائل وكلُّ ما قرأت بلا معلمين لم يصلني، صرتُ أبحثُ عن المعلم وأستعير الكتاب الذي قرأه من الغلاف إلى الغلاف، أتعثّر أحياناً وأصيب أحايين أخرى، ولم أندم على قراءة أحسها صارت جزءًا مني ومرجعًا، كذلكَ لم أركن للكتابِ فقط، فالتجربة والأشخاص بمنطوقهم وحركة الشارع والبيت والسياسة وحركة الطبيعة والشتائم التي يتبادلها بعضهم بالمبتكر فيها وبالمفضوح والهاتك للمسكوت عنه كلُها جعلت مني كاتبًا يستطيع أن يكتبَ رسالة قصيرة إلى حبيبته دونَ الاستعانة بصديق، رسالة بعناوين عدة لكنها مكثفة وتحتمل أكثر من قراءة.
العناوينُ فَخ الكاتبِ للقارئ، فاقرأ عزيزي قبلَ أنْ تدعَس علينا برأيكَ!
(سورية)