أثار حديث الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون، الأربعاء، عن وجود "ثورة مضادة" ومحاولات "انقلاب داخلي" من مجموعات النظام السابق، و"عصابة" تسعى إلى تعطيل مسار التغيير وإثارة قلاقل في البلاد، مزيداً من الجدل السياسي.
وتركز الجدل حول ما إذا كان تفسير السلطة السياسية للإخفاقات والأزمات الأخيرة التي شهدتها البلاد بـ"نظرية المؤامرة" مجرد هروب من الاعتراف بالفشل، في مقابل من يرى أنّ الأمر يتعلق فعلياً بصراع قائم ومستمر على السلطة، ومستوى تأثير جيوب "الثورة المضادة" المقاومة للتغيير على الوضع في البلاد.
وعلى حين غرة دخل مصطلح " الثورة المضادة" القاموس الرسمي للخطاب السياسي في الجزائر، للمرة الثانية، في غضون أسبوع، إذ اعتمد مسؤولون في البلاد هذا المضمون السياسي الذي يوحي أنّ السلطة السياسية بصدد مواجهة "مؤامرة داخلية".
أعلى مسؤول قضائي في البلاد، رئيس المحكمة العليا، رشيد طبي، ذكر، خلال إشرافه على تنصيب نائب عام لمجلس قضائي، قبل أيام، أنّ الجزائر "تتعرض لثورة مضادة"، لكن تصريحه لم يلفت الأنظار كثيراً، ما عدا التساؤل عن خروج هذا القاضي السامي عن اللياقة القضائية والخوض في الشأن السياسي. إلا أنّ تصريحاً للرئيس عبد المجيد تبون بوجود "ثورة مضادة منظمة"، تقف وراءها ذات المجموعات الإدارية والمالية والمستفيدة من النظام السابق، وكذا تحذيراته المتكررة في خطابه الأخير من هذه المخاطر، وضع النقاش في سياق جدي.
وقال تبون، في اجتماع موسع عقده، الأربعاء، مع وزراء الحكومة وحكام الولايات، إنّ البلد يواجه "ثورة مضادة"، وإنّ "هناك من النظام السابق مَن لا يزال يحلم بالعودة إلى الحكم واستعادة زمام الأمور، ونقول له: ذلك زمن ولى، الشعب خرج للشارع وانتهى، هذه عجلة التاريخ ولن تعود، ومن يعتقد أن البلد سيعود إلى ما كان عليه من سيطرة المال الفاسد والتعيين بهاتف الليل، فهو مخطئ".
وعلاوة على ذلك، قفز تبون إلى الصف الأول للحراك الشعبي، مقدماً نفسه "شهيداً" سياسياً لأجل التغيير، عندما تحدث عن إصراره على إنجاز التغيير والقضاء على لوبيات النظام السابق وتفكيك شبكاتها مهما كلفه الأمر.
وقال تبون: "نحن منتبهون وحذرون ويقظون، وسنقضي على العصابة أو سنهلك دون ذلك"، محذراً الحكومة والمسؤولين من تحركات مريبة لما وصفه بقوى خفية تعمل على إثارة القلاقل، وقال: "خذوا حذركم، هناك قوى ما زالت تعمل على زعزعة استقرار البلاد وتتصور أنها قادرة على ذلك، ومن ذلك بث الإشاعات وقلب الحقائق".
وأشار تبون، في السياق، إلى وجود دلائل مادية على ذلك، وقال: "هناك من لا يزال في السجن وأمواله تتحرك، 10 ملايين دولار تذهب للخارج، من أمر بذلك وكيف خرجت الأموال؟"، في إشارة إلى قضية توقيع ممثلة عن زعيم "الكارتل المالي"، علي حداد، الموجود في السجن والمدان في عدد من قضايا الفساد ونهب المال العام مع مجموعة ضغط أميركية مقربة من الرئيس الأميركي دونالد ترامب عقداً بقيمة 10 ملايين دولار للمساعدة والضغط على السلطات الجزائرية للإفراج عنه.
ويفسر هذه القضية التي كشف عنها قبل أيام القرار الذي اتخذته، أمس الأربعاء، السلطات الجزائرية بإعادة توزيع رجال "الكارتل المالي" الموجودين في سجن الحراش المركزي في العاصمة الجزائرية، وإبعادهم إلى سجون في المناطق الداخلية، إذ تقرر نقل زعيم الكارتل المالي المدان بـ18 سنة سجناً إلى سجن بولاية باتنة شرقي الجزائر، ورجل الأعمال الذي ثبتت علاقته بمجموعة ناشطين ومحرضين في الخارج، محيي الدين طحكوت، الذي أدين بـ16 سنة سجناً إلى سجن في ولاية خنشلة، لإبعادهم عن شبكات ما زالت على اتصال بهم، أو أي تعاون من عناصر من أجهزة ذات صلة بهم.
في المجمل، يوحي خطاب لتبون كهذا أنه يواجه مشكلات جدية داخل مفاصل الدولة أو مجموعات مقاومة إدارية، يُعتقد أنها تقاوم مسار التغيير في البلاد، ويشكك الرئيس الجزائري في وجود تواطؤ داخل الإدارة في مؤسسات الدولة وأجهزتها لصناعة مناخ من التوترات، على غرار أزمات المياه والكهرباء والحرائق، وأزمة السيولة وتعطيل المشاريع الخدمية وغيرها.
ويقول تبون ورئيس حكومته عبد العزيز جراد، إن هذه الأزمات مدبرة وبفعل فاعل، وإن التحقيقات ستكشف مدبريها. ويتحدث أنصار تبون ومؤيدوه عن وجود شبه بين الأزمات التي اختلقتها الدولة العميقة في مصر خلال الفترة الأولى من حكم الرئيس الراحل محمد مرسي، من أزمات للدولار والكهرباء والمواد التموينية وغيرها لإثارة الشارع وإعطاء انطباع بإخفاق الحكومة وفشلها، وبعدم وجود أي تغيير في الأفق.
وبالنسبة إلى أستاذ العلوم السياسية في جامعة ورقلة، قاسم حجاج، فإنّ خطاب الرئيس تبون، الذي يشكو فيه للجزائريين على مشارف دخول اجتماعي استثنائي، ويكشف تغولاً للأجهزة الإدارية ومحاولات لوبيات متنفذة لتعطيل الإصلاح السياسي، هو الخطاب المثير نفسه الذي ألقاه الرئيس السابق الشاذلي بن جديد، في سبتمبر/ أيلول 1988، أمام الولاة وإطارات الأمة.
وقال حجاج: "ذكرني خطاب الرئيس تبون، في هذا الاجتماع، وهذا السياق الوطني والدولي بخطاب واجتماع مماثل وسياق مماثل نسبياً بخطاب الشاذلي سبتمبر 1988 الذي تفجرت من بعده أحداث الخامس من أكتوبر/ تشرين الأول 1988، ما يُفهم منه وجود صراعات داخل النخب العليا ويؤشر على أحداث كبيرة قد تتفجر في أي لحظة".
وأضاف: "أعتقد أن الأمور ستتضح أكثر من الآن حتى أكتوبر/ تشرين الأول المقبل أو ما قبل نهاية السنة"، مشيراً إلى أن الرئيس تبون وجناحه سيلعبان بأوراقهما كافة في حال الخروج من مرحلة الضرب الخفي إلى مرحلة الحسم.
ثورة مضادة لمن و ضد من؟
لكن المحلل السياسي وأستاذ العلوم السياسية أحمد فلاق، يعتقد أنّ خطاب تبون "هو تطوير لحديث سابق عن نظرية المؤامرة في تفسير بعض الأزمات التي تعوّدها الجزائريون منذ عقود، كانقطاع الكهرباء ونقص المياه في الصيف والسيولة النقدية في العيد، مؤكداً، في تصريح لـ"العربي الجديد"، أنّ المبررات التي ساقها الرئيس هي "إقرار ضمني بالفشل، لكن من دون تحمل مسؤولياته".
وأضاف: "المنظومة وصلت إلى مرحلة متقدمة من الترهل والصراعات الداخلية، تُضاف إليها، وهو الأهم، أزمة الشرعية التي طفت مجدداً إلى السطح، لأن كل الذين وقفوا على سير انتخابات 12/12 من خلف الستار (في إشارة إلى قيادات في الجيش والمخابرات) هم في السجن، ما يزيد من تأكيد عبثية ذلك الاستحقاق".
وتابع فلاق: "بدل الإقرار بالإخفاق في وضع حلول للأزمات، يعود الرئيس تبون إلى السيناريو التقليدي نفسه والخطاب السابق للنظام، وهو المؤامرة، لدغدغة مشاعر كتلة 12/12 التي أصيبت بالإحباط"، مضيفاً: "الحديث عن نظام سياسي سابق بالنسبة إليّ ليس ذا جدوى، لأن النظام من حيث البنية هو ذاته، ويبقى الرهان على مدى انفتاح تبون على الممارسة السياسية التي قد تجعله يتميز عن سابقه، والانفتاح على الطبقة السياسية وتشجيع المبادرة قد يسهمان في إحداث تغيير، ولو طفيفاً، على مستوى المشهد الذي سينعكس إيجاباً على باقي القطاعات، ولا سيما على المستوى المعيشي للمواطن".
واستدرك فلاق بالقول: "لكن المقلق حقاً اليوم، دائرة حرية التعبير التي تضيق يوماً بعد يوم، ما سينعكس سلباً على حرية المبادرة لكل الشركاء والنشطاء".
ويبدو أنّ هناك مقاربة تقنية للأزمة والمخلفات في البلاد، أكثر واقعية من التفسير السياسي،بعيداً عن الثورة المضادة أو فشل الرئيس.
و يسوق المحلل السياسي خليل تزغاش، في هذا السياق، مؤشرات تعتبر أنّ "أسباب الأزمات الخانقة التي تعصف بالبلاد في جميع القطاعات والمجالات كافة تتمثل في قطاع واسع من الإطارات التي تسيّر الإدارة ومستويات عديدة في الدولة، ولا تمتلك المؤهلات العلمية والسياسية والأخلاقية حتى لشغل مناصبها، بسبب طرق التوظيف وتزوير المسار العلمي والمسابقات العامة والانتخابات المزورة، وهي سلوكات وممارسات تفاقمت منذ انقلاب 1992 ، وبفعل التحكم المركزي والمقاربة المخابراتية".
وقال تزغاش: "لنا أن نتصور ما هو حجم الأداء الذي يمكن أن يقدمه موظف نجح في التوظيف بالوساطة أو الرشوة، وجرت ترقيته من طريق ذات الآليات، وما مدى مساهمة منتخب أفرزته منظومة سياسوية غارقة في الشعبوية تتحكم بها البيروقراطية الأمنية الإدارية المتكلسة والمال الفاسد".
وأضاف: "أعتقد أنّ القضية معقدة أكثر من وجود مقاومة للتغيير وثورة مضادة، كما يتوهم البعض، أو كما يعتقد الذين يحاولون القفز على الحقيقة المرة وتحميل المسؤولية للحلقات الأصغر في المنظومة الحاكمة، وكما يروج الإعلام والدعاية المظللة، بقدر ما تجب المبادرة إلى طلاق مسار سياسي فعلي يتجاوز رتابة التمثيل ورعاية توازنات العصابات المنتفعة".