27 أكتوبر 2024
قراءة التاريخ بين التدنيس والتقديس والتسييس
استجدّ أخيراً اندلاع جدل زاعق ساخن، في الفضاءيْن الافتراضي والإعلامي، على خلفية عرض إحدى الفضائيات مسلسلاً درامياً يتعرّض لحقبة تاريخية معيّنة من تاريخنا الوسيط، تقف في خلفيته الأزمة السياسية الكبيرة التي تشهدها المنطقة، حيث أُنتِجَ العمل الدرامي بتمويل إماراتي، وتناول الغزو العثماني مصر ونهاية دولة المماليك، ما أثار غضباً تركيّاً، رأى في العمل توظيفاً سياسياً للدراما، وهو ما يُعيد فتح ملفّ إعادة قراءة التاريخ.
يُعدّ التاريخ من أهمّ العلوم الإنسانية، فهو بمثابة وعاء الخبرات الإنسانية والحضارية المتراكمة، الذي يحوي الذاكرة الجمعية للأفراد والشعوب والأمم، والذي يحمل خلاصة دروس الماضي، ويعينها على السير في طريق المستقبل، وعرّفه ابن خلدون تعريفاً مطوّلاً جاء فيه بأنّه "خبرٌ عن الاجتماع الإنساني الذي هو عُمران العالم، وما يَعرض لذلك العمران من الأحوال في ظاهره، لا يزيد على أخبارٍ عن الأيّام والدول والسوابق، من القرون الأوَل تنمو فيها الأقوال وتُضرب فيها الأمثال".
الأحداث التاريخية قابلة لإعادة قراءتها مع تغيّر الظروف والسياق، ومن المُفترَض أن قراءة
التاريخ محكومة بضوابط معرفية، وبحثية، وعلمية واضحة ومحدّدة، تهدف إلى تقديم صورة صحيحة للوقائع والأحداث التاريخية، عبر توخّي الموضوعية، والابتعاد عن محاولات التزييف، بيْد أنه، في أحيانٍ كثيرة، تطغى الانحيازات الأيديولوجية على الضوابط المعرفية، وتُهيمن العوامل الذاتية على المعايير البحثية، ما يقود إلى سقوط الحقائق التاريخية تحت سنابك نزعات الانحياز الفجّ الذي يدور بين التدنيس، والتقديس، والتسييس، ما يؤدّي، في النهاية، إلى تقديم صور تاريخية مشوّهة، ضررها يفوق بكثير نفعها.
عانينا كثيراً من صنفيْن في قراءة تاريخنا الحضاري الإسلامي وتقييمه، من الذين قعدت بهم أيديولوجياتهم في قراءاتهم لتاريخنا، ودفعتهم إلى إعادة صياغته بعد تطويعه وتوظيفه، أو بالأدقّ "أَدْلَجَته" بما يخدم أهدافهم الذاتية، وبما يتواءم مع انحيازاتهم الأيديولوجية التي تبتعد كلّ البُعد عن أي مصلحة وطنية.
الأوّل: علمانيون متطرّفون من خلفيات شتّى، ارتدوا مسوح التنوير (ذلك المصطلح الهلامي الغامض في تعريفه ودلالاته)، تجمعهم النزعة الاستشراقية تجاه تاريخنا وتراثنا، فهم وإن كانوا من بني جلدتنا ويتكلّمون بألسنتنا، إلا أنهم يكنّون كراهيةً عميقةً لهوّيتنا، فمشكلة أولئك القوم ليست مع الإسلاميين، أو مع جماعات الإسلام الحركي، وليست حتّى مع الأزهر وحسب، بل مع الدين نفسه، ومع أيّ حضور للدين بأي درجة في المجال العام، فترى خطابهم يفيض بحقد آكِل على كلّ ما هو إسلامي، وتجدهم يطعنون بشدّة في رموز وشخصيات تاريخية كبيرة، مثل عمرو بن العاص وصلاح الدين الأيّوبي وسيف الدين قُطز، ولا يجد بعضُهم أدنى غضاضة في التصريح العلني بأنّ الفتح العربي الإسلامي لمصر "قوّة احتلال" ينبغي التخلّص منها، ومن كلّ آثارها وإهالة التراب عليها. وفيما تجدهم حرباً وناراً على كلّ ما هو إسلامي، تجدهم برداً وسلاماً على كلّ ما هو غربي، فلا تسمع لهم همساً ولا ركزاً تجاه الحملة الفرنسية، أو الاحتلال الإنجليزي. أمّا كتاباتهم عن نابليون، وكليبر، وكرومر فليس فيها سوى التمجيد والانسحاق اللذين يدلّان على مدى احتقارهم ذاتهم الحضارية ورغبتهم الجامحة في الانسلاخ منها.
الثاني: بعض المحسوبون والمُنتسبون إلى جماعات وتنظيمات الإسلام الحركي، من الذين يتصدّرون للكتابة في الشأن التاريخي، من المحسوبين زوراً على المُؤرِّخين (وهو وصف لا ينطبق عليهم بأيّ حال) من روّاد مدرسة التفسير"الحركي" أو "التنظيمي" للتاريخ الإسلامي. والحديث عن كوارث أولئك القوم يطول، فقد أعادوا صياغة التاريخ الإسلامي بعد "تفصيله" ليتناسب مع "مقاس" العقلية التنظيمية لجماعاتهم، وقدّموه في صورةٍ "حركيةٍ" تتمركز حول التنظيم أو الجماعة، بالتركيز على فكرة رئيسية تحوي قياساً فاسداً مفادها، أن النبيّ، صلّى الله عليه وسلّم، وصحابته قاموا بـ"حركة" داخل المجتمع الجاهلي لقيام الدولة الإسلامية، قامت على الدعوة وبناء التنظيم، وتقوم على تلك الفكرة المشوّهة بِنية تفسيرية فاسدة للتاريخ الإسلامي، تقرأه قراءة دفاعية مشوبة بنظرة تبريرية، ونبرة وعظية، تجرّده من طابعه البشري تحاول أن تجعله نوعاً من "الفعاليات الإلهية" (وفق تعبير المؤرّخ قاسم عبده قاسم) وتقدّم أبطاله في صورة خارقة فوق مستوى البشر، فضلاً عن التفسير الاختزالي البائس لقيام الدول الذي يقتصر على اكتمال الجانب الإيماني، أو سقوطها الذي يقتصر دوماً على عامل انتشار المعازف والسفور والانحلال، من دون النظر إلى العوامل الاجتماعية والسياسية الأخرى.
المثال الأبرز هنا هو كتاب "المنهج الحركي للسيرة النبوية" لمنير محمد الغضبان، الذي صاغ
السيرة النبوية في صورة حركية بطريقة فجّة، ومُتعسّفة إلى أبعد حدٍّ، إلى درجة أن الانطباع الأساسي الذي يخرج به قارئ هذا الكتاب أن النبيّ وصحابته كانوا أعضاءً بدرجة "أخ عامل" في تنظيم الإخوان المسلمين (!). أمّا "روايات" طبيب المسالك راغب السرجاني، فهي مأساة حقيقية تستوجب محاكمة راويها، لكونها حافلة بأخطاء ومغالطات تاريخية فادحة. والصياغة "الحركية" للتاريخ الإسلامي جزء أساسي من مناهج التربية داخل تلك التنظيمات، وهو ما نتج منه تفريخ أجيال من الذين يحملون صورة ذهنية مشوّهة عن تاريخهم، من الذين يرون الدنيا على اتساعها من ثقب التنظيم، ويقرأون التاريخ بعيْن الجماعة.
الأدهى هو الموجة الأخيرة من التسييس لتاريخنا، عبر "الأَدلَجَة" و"الأَدْلَجَة" المضادّة لبعض الأحداث التاريخية، وتقديمها في قالب درامي لا يقوم على إعادة قراءة التاريخ، بقدر ما يقوم على إعادة كتابته بطريقةٍ منحازةٍ بصورةٍ فجّة، بغرض التمجيد أو الإساءة، عبر تقديس الصورة الذاتية لتعزيز القوّة الناعمة، والاستثمار في الإرث الحضاري، أو تشويه صورة الخصم السياسي والنكاية باستدعاء وقائع تاريخية بعينها من الماضي، وتوظيفها سياسياً في صراعاتٍ جاريةٍ في الحاضر، بعد العبث بمعالمها وتفاصيلها، للمكايدة بالإسقاط والرمزية، ليكون المُنتَج صورة تاريخية مشوّهة لا تمتّ إلى الواقع بصلة.
المؤسف بحقّ هنا أن ذاكرتنا التاريخية أضحت مسرحاً للتجاذبات والنكايات السياسية، ولتصفية الحسابات الأيديولوجية والتاريخية، وهو أمرٌ له عواقب وخيمة على الأجيال الجديدة التي بات جزء كبير منها يحمل صور ذهنية زائفة ومشوّهة عن تاريخه، تحتاج إلى جهود كبيرة ووقت طويل، من أجل القيام بعمليةٍ ذات طابع مزدوج، يقوم على إزالة الحطام والركام القديم، وإعادة قراءة تاريخنا بصورة سليمة هادئة، تبتعد عن كلّ هذا الكمّ من الانفعالات والتشنّجات.
الأحداث التاريخية قابلة لإعادة قراءتها مع تغيّر الظروف والسياق، ومن المُفترَض أن قراءة
عانينا كثيراً من صنفيْن في قراءة تاريخنا الحضاري الإسلامي وتقييمه، من الذين قعدت بهم أيديولوجياتهم في قراءاتهم لتاريخنا، ودفعتهم إلى إعادة صياغته بعد تطويعه وتوظيفه، أو بالأدقّ "أَدْلَجَته" بما يخدم أهدافهم الذاتية، وبما يتواءم مع انحيازاتهم الأيديولوجية التي تبتعد كلّ البُعد عن أي مصلحة وطنية.
الأوّل: علمانيون متطرّفون من خلفيات شتّى، ارتدوا مسوح التنوير (ذلك المصطلح الهلامي الغامض في تعريفه ودلالاته)، تجمعهم النزعة الاستشراقية تجاه تاريخنا وتراثنا، فهم وإن كانوا من بني جلدتنا ويتكلّمون بألسنتنا، إلا أنهم يكنّون كراهيةً عميقةً لهوّيتنا، فمشكلة أولئك القوم ليست مع الإسلاميين، أو مع جماعات الإسلام الحركي، وليست حتّى مع الأزهر وحسب، بل مع الدين نفسه، ومع أيّ حضور للدين بأي درجة في المجال العام، فترى خطابهم يفيض بحقد آكِل على كلّ ما هو إسلامي، وتجدهم يطعنون بشدّة في رموز وشخصيات تاريخية كبيرة، مثل عمرو بن العاص وصلاح الدين الأيّوبي وسيف الدين قُطز، ولا يجد بعضُهم أدنى غضاضة في التصريح العلني بأنّ الفتح العربي الإسلامي لمصر "قوّة احتلال" ينبغي التخلّص منها، ومن كلّ آثارها وإهالة التراب عليها. وفيما تجدهم حرباً وناراً على كلّ ما هو إسلامي، تجدهم برداً وسلاماً على كلّ ما هو غربي، فلا تسمع لهم همساً ولا ركزاً تجاه الحملة الفرنسية، أو الاحتلال الإنجليزي. أمّا كتاباتهم عن نابليون، وكليبر، وكرومر فليس فيها سوى التمجيد والانسحاق اللذين يدلّان على مدى احتقارهم ذاتهم الحضارية ورغبتهم الجامحة في الانسلاخ منها.
الثاني: بعض المحسوبون والمُنتسبون إلى جماعات وتنظيمات الإسلام الحركي، من الذين يتصدّرون للكتابة في الشأن التاريخي، من المحسوبين زوراً على المُؤرِّخين (وهو وصف لا ينطبق عليهم بأيّ حال) من روّاد مدرسة التفسير"الحركي" أو "التنظيمي" للتاريخ الإسلامي. والحديث عن كوارث أولئك القوم يطول، فقد أعادوا صياغة التاريخ الإسلامي بعد "تفصيله" ليتناسب مع "مقاس" العقلية التنظيمية لجماعاتهم، وقدّموه في صورةٍ "حركيةٍ" تتمركز حول التنظيم أو الجماعة، بالتركيز على فكرة رئيسية تحوي قياساً فاسداً مفادها، أن النبيّ، صلّى الله عليه وسلّم، وصحابته قاموا بـ"حركة" داخل المجتمع الجاهلي لقيام الدولة الإسلامية، قامت على الدعوة وبناء التنظيم، وتقوم على تلك الفكرة المشوّهة بِنية تفسيرية فاسدة للتاريخ الإسلامي، تقرأه قراءة دفاعية مشوبة بنظرة تبريرية، ونبرة وعظية، تجرّده من طابعه البشري تحاول أن تجعله نوعاً من "الفعاليات الإلهية" (وفق تعبير المؤرّخ قاسم عبده قاسم) وتقدّم أبطاله في صورة خارقة فوق مستوى البشر، فضلاً عن التفسير الاختزالي البائس لقيام الدول الذي يقتصر على اكتمال الجانب الإيماني، أو سقوطها الذي يقتصر دوماً على عامل انتشار المعازف والسفور والانحلال، من دون النظر إلى العوامل الاجتماعية والسياسية الأخرى.
المثال الأبرز هنا هو كتاب "المنهج الحركي للسيرة النبوية" لمنير محمد الغضبان، الذي صاغ
الأدهى هو الموجة الأخيرة من التسييس لتاريخنا، عبر "الأَدلَجَة" و"الأَدْلَجَة" المضادّة لبعض الأحداث التاريخية، وتقديمها في قالب درامي لا يقوم على إعادة قراءة التاريخ، بقدر ما يقوم على إعادة كتابته بطريقةٍ منحازةٍ بصورةٍ فجّة، بغرض التمجيد أو الإساءة، عبر تقديس الصورة الذاتية لتعزيز القوّة الناعمة، والاستثمار في الإرث الحضاري، أو تشويه صورة الخصم السياسي والنكاية باستدعاء وقائع تاريخية بعينها من الماضي، وتوظيفها سياسياً في صراعاتٍ جاريةٍ في الحاضر، بعد العبث بمعالمها وتفاصيلها، للمكايدة بالإسقاط والرمزية، ليكون المُنتَج صورة تاريخية مشوّهة لا تمتّ إلى الواقع بصلة.
المؤسف بحقّ هنا أن ذاكرتنا التاريخية أضحت مسرحاً للتجاذبات والنكايات السياسية، ولتصفية الحسابات الأيديولوجية والتاريخية، وهو أمرٌ له عواقب وخيمة على الأجيال الجديدة التي بات جزء كبير منها يحمل صور ذهنية زائفة ومشوّهة عن تاريخه، تحتاج إلى جهود كبيرة ووقت طويل، من أجل القيام بعمليةٍ ذات طابع مزدوج، يقوم على إزالة الحطام والركام القديم، وإعادة قراءة تاريخنا بصورة سليمة هادئة، تبتعد عن كلّ هذا الكمّ من الانفعالات والتشنّجات.