"يوم المرأة العالمي" يدفعني إلى تذكُّر سنوات خلت، حين لا رجل يقدِّم لنا وردة بيضاء محتفياً بنا. وحين تحتفل المرأة بالمرأة، وتبدأ الاتحادات النسائية بإحياء هذا اليوم بوسائل عدة، منها الندوات والمؤتمرات، وقد تتلوّن العناوين، ما بين تعنيف المرأة والقوانين، أو الأدب النسائي، أو قوانين الأحوال الشخصية والمرأة.. وهكذا دواليك.
لا أعرف لم خطرت في بالي بهذه المناسبة جارتنا أم العبد. هي امرأة تخطو إلى النصف الثاني من عقدها الثامن. هي تشبه كثيراً أم العبد في رواية غسان كنفاني، فهي أم الشباب بحق، ترملت إثر الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982 ، وبدأت رحلتها الشاقة مع ابنين وثلاث بنات.
كنت أحرص دائماً أن أحمل لها كل سنة وفي الثامن من آذار قرنفلة بيضاء، وهدية أخرى لا أظهرها حتى أسمع ما قد تقدّمه لي من موشح.
في المرة الأولى حين زرتها وقدّمت لها القرنفلة، ابتسمت ثم أردفت قائلة: إنتِ أحلى وردة بس إيش المناسبة يمّا؟
بوجلٍ؛ لأني أخاف لسانها الذي لا يمكن أن يتوقف عن التعليق، قلت: اليوم هو يوم المرأة العالمي، يعني عيد المرأة بكل العالم، وحبّيت أهديك وردة بهذه المناسبة.
دفعت أم العبد بالوردة جانباً، وقالت: عيد النسوان كمان؟ إي بنعيش وبنسمع، بس لو جبتي لأم العبد حطة تغطي هالشيبات مش كان أحسن من الوردة؟
ابتسمت، وسارعت لتقديم الهدية الأخرى، حتى لا أسمع المزيد من موشح أم العبد.
أم العبد فلسطينية بكل ما تحمل الكلمة من معنى، لا تترك مناسبة إلا وتراها من أول المشاركين، ليس من انطلاقة لفصيل إلا وتشارك باحتفاليتها، وحين أسألها من أي فصيل أنت، تسارع وتقول: فلسطين.
أم العبد لا تعرف من الحركة النسوية شيء، هي لا تعرف أريغاري منظرة النسوية في فرنسا، لا تعرف قاسم أمين ونوال السعداوي، ولا الحركة النسوية الأميركية أو البريطانية أو الهندية.
أم العبد لا تعرف الجندر، ولا تعرف أي امرأة في القيادة النسائية الفلسطينية حتى.
لم تسمع ببكين 1 أو بكين 2، ولا يعنيها ما تمخض عن البكينين من قرارات ونتائج، ما يعنيها أن تؤمن قوت عيالها، وفنجان قهوة للشباب الذين يتغنون بطعمها.
أم العبد ما زالت في المخيم، في الجادة الخامسة من بئر السبع، في شارع كفر قاسم. أحاول الاتصال بها ولا أنجح. منذ فترة ليست بعيدة علمت أن ابنها الأصغر قد مات قنصاً وهو يحاول أن يستلم الكرتونة الغذائية من لجان الإغاثة.
أنجح بالاتصال بصديق، أطلب منه أن يزور أم العبد، وينقل لها سلامي، وما تريده مني في يوم المرأة العالمي.
أخبرني الصديق أنها افتقدتني لسنوات ثلاث، وأن الحطة التي تغطي رأسها ما عادت قادرة على أن تغطي شيبها لكثرة ما اهترأت.
وهي لا تريد وروداً، فقط ما أرادته رأس بصل وقليل من الزيت، وربطة خبيزة تسكت فيها جوع أحفادها، الذين قدموا إلى الحياة بعد أن خط الزمن كل أوجاعه على وجنتيها.