23 ابريل 2017
قطر من القوة الناعمة إلى القوة الذكية
باتخاذ أحمد محمد، الفتي الأميركي السوداني، مخترع الساعة، قراره بالانتقال إلى الدوحة مباشرة بعد زيارته البيت الأبيض، تكون دولة قطر بذلك قد أضافت لنفسها ريشة زينة أخرى. وتعد المنحة الدراسية الاستثنائية التي منحتهـا قطر للفتى الموهوب، الذي صنع الحدث في الولايات المتحدة الأميركية أكثر من مجرد لفتة ضد التمييز العرقي والديني، بل هي دليل على طموح السياسة الخارجية لهذا البلد الصغير، الذي يشبه لوكسمبورغ، من حيث المساحة الجغرافية، ويفوق سويسرا في الإمكانيات المادية. ومع ما يزيد على الخمسين مليار جنيه إسترليني، فإن قطر بصدد الانتقال من القوة الناعمة إلى القوة الذكية.
لقد سكّ العـالم السياسي بامتياز، جوزيف ناي (Joseph Nye)، مصطلح القوة الناعمة في سنة 2004، عندمـا كان بصدد وضع إطار عمل شامل للدولة، فبالنسبة إليه، تضم عنـاصر القوة النـاعمة استغلال الموارد المتـاحة في كل من المجال الثقافي، السياسة الوطنية والدولية، والقيم. وبغض النظر عن قوتها العسكرية، أو حجمهـا الجغرافي وأهميتهـا، فإن الدولة التي تتبنى القوة النـاعمة تنشر تلك العنـاصر بين مواطنيهـا، بهدف التأثير على سلوكهم، وتحقيق النتائج المرجوة، في حين أن هنـالك دولاً تقليدية قد تحـاول الوصول إلى النتيجة نفسها، باستخدام الإكراه العسكري أو الاستغلال السياسي.
تعتبر الثقافة أول مصدر للقوة، وتُعَرَّف بأنهـا مجموع القيم والعادات التي تنظم المجتمعات وتمنحها قيمتها. وتتجلى الثقافة في الأدب والفن، وعلى مستويات أخرى أكثر شعبية ككرة القدم والكريكيت. إذا كانت استضافة قطر أحمد ضربة لواشنطن، فإن استضافتهـا كأس العـالم 2022 ستكون بمثابة انقلاب ثقافي، ما سيجعل قطر الرابح الأكبر، حتى وإن لم ترسل لاعبي منتخبها لكرة القدم الأحد عشر إلى أرضية الملعب. وعلى أساس أكثر ثبـاتاً، فإن شراكة أكاديمية "أسباير" مع منظمة "الحق في اللعب" التي تهدف إلى إنتاج قـادة شباب، من خلال الرياضة في كل من الأردن، باكستـان، ونيبال، هي طمأنة للعالم وتأكيد على أن العلاقة الرومانسية للدوحة مع الرياضة ليست محصورة في مجرد تنظيم حدث دولي ضخم، ككأس العـالم، ومحاولة صنع ضجة إعلامية حول البلاد.
وبما أن القيم تعتبر أداة ثالثة للقوة الناعمة، فإن قطر اتخذت قراراً جريئاً، ومثيراً للجدل في الوقت نفسه، عندما سمحت لحركة طالبان بفتح مكتب سياسي، هدفه منح الأولوية للسلام. وعلى الرغم من معيقات ومتغيرات عديدة، تعترضها في أفريقيا، عمدت الدوحة إلى فتح مكاتبها للوساطة في السودان والصومال. وعندمـا يستأنف العنف في مثل هذه الصراعات المعقدة، تصبح حدود نفوذ القوة الناعمة واضحة. ليست الوساطة وإحلال السلم أو تحويل النزاعات أشياء من السهل تحقيقها، بل هي عمليات متطورة، يتحقق نجاحها على المدى البعيد، ورهيناً بالالتزام الحقيقي. لم تكن المحادثات التي جرت في باكستان بين أفغانستان و"طالبان" لتتحقق، لو لم يكن هنالك تعـامل مع المليشيات في الدوحة.
إنجازات .. وقوتان صلبة وناعمة
وبينما تعد قطر أبرز مثال لدولة تتبنى منطق القوة النـاعمة، فإن لدى مجموعة من العلماء
السياسيين، مثل جوزيف ناي، تصوراً مختلفاً. ما حققته قطر من إنجازاتٍ يصعب أن تحققه أية دولة عربية وإسلامية أخرى. حتى وإن هبط ثمن النفط إلى أقل من 60 دولاراً للبرميل في سنة 2016، فإن لدى الدولة الخليجية الصغيرة القدرة على الاستمرار في مسارها الطموح، وهذا بفضل الخمسين مليار جنيه إسترليني التي تتوفر عليها الدولة، بالإضافة إلى محفظتها الاستثمارية المتميزة في جميع أنحاء العـالم.
وفقاً لناي، لدى القوة الذكية القدرة على الجمع بين القوتين، الصلبة والناعمة، في استراتيجية ناجحة. والفكرة هي اعتماد سياسات ذكية، تجمع بين عناصر من القوة الصلبة ومبادرات القوة الناعمة المثالية بطريقة متناغمة، غالباً ما تكون خفية، وبالتالي، الحصول على نتائج أفضل تتماشى والحاجيات المحددة.
على خلاف باكستان، لا تتوفر قطر على جنودٍ كثيرين، قد تدّخرهم للخدمة في قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة. لكن، في المقابل، تعمد الدولة إلى لعب أدوار الوساطة بين الأطراف المتنازعة لتحقيق السلام. تم بذل مجهودات جبارة في هذا الصدد، لكن النتيجة لم تكن مقنعة، بدليل انقلاب الحوثيين في اليمن، والذي كشف عن محدودية القوة الناعمة القطرية. وعندما قرّرت المملكة العربية السعودية، في وقت متأخر، التدخل عسكرياً في مارس/آذار الماضي، لم تستطع الدوحة أن تظل محايدة مثل مسقط، العضو أيضاً في منظومة مجلس التعاون الخليجي، فبالإضافة إلى دزينة من الطائرات المقاتلة، هنالك 1000 جندي قطري يقاتلون المسلحين المدعومين من إيران في اليمن. وكانت قطر من تلك البلدان القليلة الأولى التي رحبت بالاتفاق النووي لإيران، وأخيراً، تباهت المنابر الإعلامية الإيرانية بالاتفاقية الأمنية البحرية بين قطر وإيران.
في 2003، وضع جوزيف ناي مصطلح القوة الذكية لتفنيد أطروحة أن القوة الناعمة الوحيدة الكفيلة بإنتاج سياسة خارجية فعّـالة، وعرّف القوة الذكية بأنهـا أجندة من شأنها التأثير على خيارات الآخرين، وتشكل دولة القوة الذكية توازناً مثالياً بين القوتين الصلبة والناعمة.
مشاريع مقترحة
ونظراً للتغيرات في ميزان القوى في منطقة الشرق الأوسط، خصوصا بعد الاتفاق النووي لإيران، وغزو روسيا سورية، فإن إغراءات إظهار القوة الصلبة لدولة غنية بالمعـادن مدهشة. فإن المقاربة الإقليمية القطرية الحديثة والمدعومة من الدبلوماسية المكثفة من شأنها أن تقطع شوطا كبيرا في الحد من احتمالات نشوب صراع أوسع. وحتى ترسخ مكانة قوتها الناعمة، فإن قطر قد ترغب في الاستثمار في بعض المشاريع المبتكرة، وفي ما يلي بعض المقترحات:
• أينما حلت كارثة، تكون قطر من السباقين لتقديم يد العون على وجه استعجالي، وتستمر
المساعدات القطرية حتى بعد الكارثة، من تبرعـات ومساعدات، قصد إعادة بناء المناطق المتضررة. الآن هو الوقت المناسب لكتابة فصول جديدة في مجال الاستجابة الإنسانية. لا يوجد مستشفى إنساني واحد عائم في المحيط المتوسطي، بهدف إنقاذ اللاجئين الغرقى والمهاجرين من سواحل ليبيا وتونس وتركيا. من شأن هذا المستشفى العـائم إنقاذ الأرواح البريئة، والمساعدة في وضع النظام في المحيطات، التي ينعدم فيها القانون. وقد عبرت مئات الآلاف إلى أوروبا من تركيا وشمال أفريقيا بين 2014-2015، مع عدد لا يحصى من القوارب، التي انقلب أغلبها في عرض المحيط، وهلك من عليهـا. ويحدث الشيء نفسه في المحيط الهندي قبالة سواحل ماليزيا وإندونيسيا، وعلى طول الطريق إلى جزيرة الكريسماس وشواطئ شمال أستراليا التي تعتبر مقبرة عائمة أخرى لعابريها. تستطيع الدوحة الإقدام على إنقاذ هذه الأرواح الثمينة. وبالتالي، بإمكان أسطول السفن الإنسانية أن يصل إلى خارج الجزر النائية في المحيط الهادي والبحر الكاريبي وأماكن أخرى، عندما يضرب إعصار ما. عندما سيتوفر أسطول كهذا، لن تكون هنالك ندرة في بحارة القرن الواحد والعشرين الرحماء.
• من قال إن حاملات الطائرات تستخدم لترويج أغراض حربية لا غير! إذا تحولت حاملتا الطائرات، أو ثلاثٌ منها، إلى حاملات طائرات نفاثة، لتحقيق أغراض إنسانية، سوف يكون من السهل الوصول إلى أماكن داخلية محصورة، كجمهوريات آسيا الوسطى أو أفغانستان، عند إبادة جماعية أو عقب كارثة طبيعية ما. وقد تمتلئ خزّانات الصواريخ بأكياس القمح والأدوية والخيام، ومعدات الإسعافات الأولية. وبدلا من الطائرات النفاثة م.أ 26 المخيفة، قد تُزيّن سطوح تلك الحاملات بالطائرات النفاثة م.أ 26 شينهوك متوسطة الحجم بيضاء، وأخرى مسماة سوبر بوما، مرفوقة بعلامات الهلال الأحمر والأعلام القطرية. كما أن الماكينات الثقيلة كالرافعة الميكانيكية والسيارات رباعية الدفع الثقيلة قد تنفع لأغراض إنسانية خلال الحروب والكوارث.
• معلوم أنه ليس لدى سويسرا موارد بترولية، ولا مناجم ألماس، فقوتها الاقتصادية الكبرى تتمثل في نظامها البنكي الغني. أليس ممكناً لقطر أن تنافس سويسرا في نجاح قطاعها البنكي، وتصبح من أكثر أماكن الثروات أمناً في العالم؟ قد يكفي لتحقيق ذلك قرار استراتيجي، فسياسات الدولة الضريبية قد تتغير، لكي تخلق بيئة ديناميكية تساعد على ازدهار الصناعة البنكية. وبذلك، قد يتنوع الاقتصاد القطري، وينتقل من الاعتماد الثقيل على واردات النفط والغاز، وقد تبدأ الثروة العالمية في ضخ الاقتصاد الداخلي. وبضخ بعض التريليونات من الدولارات في البنوك، على مر السنوات العشر المقبلة، قد تتضخم تجليّات القوة الناعمة لدولة قطر بشكل ملحوظ.
• لا يمكن لكأس العالم 2022 أن يكون غاية في حد ذاته، بل يجب أن يكون وسيلة من أجل
تحقيق غايات أخرى. فإذا كانت مدينة لوسيل ستصبح عاصمة للفن، فمن السهل جداً أن تكون مهداً للأفكار المستقبلية في عالم الرياضة، كذلك، خصوصا مع هاته الملاعب المدرّة للكهرباء والمكرّرة للماء. فبالإضافة إلى أنها مدينة عجيبة، قد تصبح الدوحة عاصمة الرياضات والألعاب الممولة من شركات الإشهار العصرية، ثم إن قطر، وبتمويلها أفضل نوادي كرة القدم دوليا، قد تلعب دور البلد الذي يُوظّف مجال الرياضة من أجل تطوير ونشر ثقافة الروح الرياضية، ومفهوم "اللعب العادل"، بالإضافة إلى نزع فتيل الصراعات، وإعادة بناء بعض الحيوات. وهناك منظمات غير حكومية، مقرها قطر، تتبنى نموذج منظمة "الحق في اللعب"، ويمكنها أن تعيد إحياء الرياضة في الشرق الأوسط وأفريقيا، ويمكنها أيضا أن تساهم في تحرير الشباب من تأثير العنف والدمار، خصوصاً ما يصطلح عليه بـ "اضطراب ما بعد الصدمة". وكان أكبر عائق أمام بعض المنظمات غير الحكومية الدولية، في أثناء عملها في كل من إفريقيا وآسيا، أن مقرّاتها الغربية كانت تفرض عليها توجيهات أمنية، انطلاقا من أخبار التلفاز أو توجّهات مواقع التواصل الاجتماعي، لكن منظمة غير حكومية، مقرّها قطر، قد تكون أكثر تأثيراً عند اشتغالها، بحيث يمكنها أن تساعد مَن هُم في قندهار أو الصحراء المغربية، أو أي مكان يحتاج إلى التدخل.
لن تساهم الرياضة فقط في الرفع من صورة قطر والتعريف بها بطلاً دولياً في طُرق الحياة السليمة والتفكير الإيجابي، بل ستساهم أيضا في القضاء على الانقسامات القبلية، والإثنية، واللغوية، والدينية وسط المجتمعات. إن حصول التناسق بين الأمة والدولة والرفع من التنافس الشريف دولياً قد يغير من نظرتنا التشاؤمية لمنطلقات نظرية صراع الحضارات، أو الفوارق الطبقية.
• وفي حين تهدف قطر إلى الرفع من مستويات الاختراع، على مدى سنوات، يبقى الوصول إلى المخترعين الشباب عملية بطيئة ومستعصية. وقد يكون من المستحسن التفكير في طريقة ذكية، من أجل الوصول إلى الثمار سهلة القطف، أي الأبحاث الإبداعية والاختراعات التي تبقى حبيسة مكتبات جامعات الدول الإسلامية. وبسبب قلة الموارد، لا تذهب أحسن الأبحاث والاختراعات بعيداً. لذلك، عوض دفع أموال طائلة لمختصين أوروبيين وأميركيين، قد يكون من الأفضل تخصيص ميزانية معينة، لتشجيع الأبحاث الآتية من العالم العربي الإسلامي، مما سيعطي دفعة قوية لصورة قطر الدولية قوة ناعمة، وسيدر فوائد كثيرة على اقتصاد الدولة المعرفي في مجالاتٍ كالفلاحة والصحة، أو الهندسة والاكتشافات الفضائية. كل ما تحتاجه العقول النيرة هو أن يؤمن بها ناصح أمين. ومن المؤسف ملاحظة هذا الكم الهائل من هجرة الأدمغة المسلمة إلى شتى بقاع العالم، من أستراليا إلى إسكندينافيا، ومن أوروبا إلى أميركا. أصبحت الأزمنة الحالية أكثر تحدّياً، خصوصاً مع تفاقم موجة الإسلاموفوبيا في أوروبا مع أزمة اللاجئين، وأخيراً، هجمات باريس المميتة. لذلك، وفي ظل هذه الأزمة، قد تستمر قطر في استيراد اليد العاملة الأقل حرفية من الهند وبنغلاديش وحتى الفليبين.
تستدعي صورة قطر قوة ناعمة مزيداً من النظر والتخطيط، من أجل تنويع الاقتصاد، والرفع من الاعتماد الداخلي على التغذية والمنتوج الفلاحي، لأن كليهما قد يشكلان عائقاً كبيراً من أجل الحفاظ على سياسة خارجية وأمنية مستقلة، في الآتي من الزمن. وما زالت الدراسة التي أنجزها رئيس برنامج قطر الوطني للأمن الغذائي، الدكتور فهد بن محمد الطايع، تنتظر التطبيق أو المراجعة.
يعود هذا التطور الملحوظ والمتماسك لقوة قطر الناعمة، وتحولها إلى قوة ذكية، إلى رؤية أمير قطر، الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، وفريقه الشاب الديناميكي. كما أن قطاع الدولة العمومي الداعم للتغير والتحديث أمامه طريق طويل. وفي حين تُصرف بلايين الدولارات كل سنة على التحديث، يبدو أن الانتباه إلى معدل النمو لا يأخذ حظه الكافي من الاهتمام. في هذا الخضم، تطرح أسئلة من قبيل: كيف تتدبر قطر أمرها في مصفوفة النجاح السنوي؟ وهل تعتمد كل مجهوداتها على التنسيق والتزامن، من أجل الوصول إلى نتائج ملموسة أو اعتبارية؟ من البديهي أن المجتمعات غيرُ محصنة من الأزمات، اجتماعيةً أم مالية. لكن الضّامن الأساسي يبقى تطوير نظام توقّعي استباقي. وهذا لا يتعلق بقطر وحدها، وإنما بجميع الدول الأعضاء في مجلس التعاون الخليجي، خصوصا مع المتغيرات الأمنية والديناميكية الاقتصادية في المنطقة. مرة أخرى، وبدل الاعتماد على خبراء وتكنوقراطيين دوليين، قد يكون من الأنفع والأفيد الاعتماد على تشكيلة من خبراء خليجيين، من أجل الخروج بتقييمات موضوعية، والعمل على إيجاد حلول مستقبلية للبلد. إن سمعة قطر معقلاً للإبداع والاختراع في العالم الإسلامي، وجسراً مع الغرب، سوف تشجع قوتها الناعمة عبر البسيطة.
لقد سكّ العـالم السياسي بامتياز، جوزيف ناي (Joseph Nye)، مصطلح القوة الناعمة في سنة 2004، عندمـا كان بصدد وضع إطار عمل شامل للدولة، فبالنسبة إليه، تضم عنـاصر القوة النـاعمة استغلال الموارد المتـاحة في كل من المجال الثقافي، السياسة الوطنية والدولية، والقيم. وبغض النظر عن قوتها العسكرية، أو حجمهـا الجغرافي وأهميتهـا، فإن الدولة التي تتبنى القوة النـاعمة تنشر تلك العنـاصر بين مواطنيهـا، بهدف التأثير على سلوكهم، وتحقيق النتائج المرجوة، في حين أن هنـالك دولاً تقليدية قد تحـاول الوصول إلى النتيجة نفسها، باستخدام الإكراه العسكري أو الاستغلال السياسي.
تعتبر الثقافة أول مصدر للقوة، وتُعَرَّف بأنهـا مجموع القيم والعادات التي تنظم المجتمعات وتمنحها قيمتها. وتتجلى الثقافة في الأدب والفن، وعلى مستويات أخرى أكثر شعبية ككرة القدم والكريكيت. إذا كانت استضافة قطر أحمد ضربة لواشنطن، فإن استضافتهـا كأس العـالم 2022 ستكون بمثابة انقلاب ثقافي، ما سيجعل قطر الرابح الأكبر، حتى وإن لم ترسل لاعبي منتخبها لكرة القدم الأحد عشر إلى أرضية الملعب. وعلى أساس أكثر ثبـاتاً، فإن شراكة أكاديمية "أسباير" مع منظمة "الحق في اللعب" التي تهدف إلى إنتاج قـادة شباب، من خلال الرياضة في كل من الأردن، باكستـان، ونيبال، هي طمأنة للعالم وتأكيد على أن العلاقة الرومانسية للدوحة مع الرياضة ليست محصورة في مجرد تنظيم حدث دولي ضخم، ككأس العـالم، ومحاولة صنع ضجة إعلامية حول البلاد.
وبما أن القيم تعتبر أداة ثالثة للقوة الناعمة، فإن قطر اتخذت قراراً جريئاً، ومثيراً للجدل في الوقت نفسه، عندما سمحت لحركة طالبان بفتح مكتب سياسي، هدفه منح الأولوية للسلام. وعلى الرغم من معيقات ومتغيرات عديدة، تعترضها في أفريقيا، عمدت الدوحة إلى فتح مكاتبها للوساطة في السودان والصومال. وعندمـا يستأنف العنف في مثل هذه الصراعات المعقدة، تصبح حدود نفوذ القوة الناعمة واضحة. ليست الوساطة وإحلال السلم أو تحويل النزاعات أشياء من السهل تحقيقها، بل هي عمليات متطورة، يتحقق نجاحها على المدى البعيد، ورهيناً بالالتزام الحقيقي. لم تكن المحادثات التي جرت في باكستان بين أفغانستان و"طالبان" لتتحقق، لو لم يكن هنالك تعـامل مع المليشيات في الدوحة.
إنجازات .. وقوتان صلبة وناعمة
وبينما تعد قطر أبرز مثال لدولة تتبنى منطق القوة النـاعمة، فإن لدى مجموعة من العلماء
وفقاً لناي، لدى القوة الذكية القدرة على الجمع بين القوتين، الصلبة والناعمة، في استراتيجية ناجحة. والفكرة هي اعتماد سياسات ذكية، تجمع بين عناصر من القوة الصلبة ومبادرات القوة الناعمة المثالية بطريقة متناغمة، غالباً ما تكون خفية، وبالتالي، الحصول على نتائج أفضل تتماشى والحاجيات المحددة.
على خلاف باكستان، لا تتوفر قطر على جنودٍ كثيرين، قد تدّخرهم للخدمة في قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة. لكن، في المقابل، تعمد الدولة إلى لعب أدوار الوساطة بين الأطراف المتنازعة لتحقيق السلام. تم بذل مجهودات جبارة في هذا الصدد، لكن النتيجة لم تكن مقنعة، بدليل انقلاب الحوثيين في اليمن، والذي كشف عن محدودية القوة الناعمة القطرية. وعندما قرّرت المملكة العربية السعودية، في وقت متأخر، التدخل عسكرياً في مارس/آذار الماضي، لم تستطع الدوحة أن تظل محايدة مثل مسقط، العضو أيضاً في منظومة مجلس التعاون الخليجي، فبالإضافة إلى دزينة من الطائرات المقاتلة، هنالك 1000 جندي قطري يقاتلون المسلحين المدعومين من إيران في اليمن. وكانت قطر من تلك البلدان القليلة الأولى التي رحبت بالاتفاق النووي لإيران، وأخيراً، تباهت المنابر الإعلامية الإيرانية بالاتفاقية الأمنية البحرية بين قطر وإيران.
في 2003، وضع جوزيف ناي مصطلح القوة الذكية لتفنيد أطروحة أن القوة الناعمة الوحيدة الكفيلة بإنتاج سياسة خارجية فعّـالة، وعرّف القوة الذكية بأنهـا أجندة من شأنها التأثير على خيارات الآخرين، وتشكل دولة القوة الذكية توازناً مثالياً بين القوتين الصلبة والناعمة.
مشاريع مقترحة
ونظراً للتغيرات في ميزان القوى في منطقة الشرق الأوسط، خصوصا بعد الاتفاق النووي لإيران، وغزو روسيا سورية، فإن إغراءات إظهار القوة الصلبة لدولة غنية بالمعـادن مدهشة. فإن المقاربة الإقليمية القطرية الحديثة والمدعومة من الدبلوماسية المكثفة من شأنها أن تقطع شوطا كبيرا في الحد من احتمالات نشوب صراع أوسع. وحتى ترسخ مكانة قوتها الناعمة، فإن قطر قد ترغب في الاستثمار في بعض المشاريع المبتكرة، وفي ما يلي بعض المقترحات:
• أينما حلت كارثة، تكون قطر من السباقين لتقديم يد العون على وجه استعجالي، وتستمر
• من قال إن حاملات الطائرات تستخدم لترويج أغراض حربية لا غير! إذا تحولت حاملتا الطائرات، أو ثلاثٌ منها، إلى حاملات طائرات نفاثة، لتحقيق أغراض إنسانية، سوف يكون من السهل الوصول إلى أماكن داخلية محصورة، كجمهوريات آسيا الوسطى أو أفغانستان، عند إبادة جماعية أو عقب كارثة طبيعية ما. وقد تمتلئ خزّانات الصواريخ بأكياس القمح والأدوية والخيام، ومعدات الإسعافات الأولية. وبدلا من الطائرات النفاثة م.أ 26 المخيفة، قد تُزيّن سطوح تلك الحاملات بالطائرات النفاثة م.أ 26 شينهوك متوسطة الحجم بيضاء، وأخرى مسماة سوبر بوما، مرفوقة بعلامات الهلال الأحمر والأعلام القطرية. كما أن الماكينات الثقيلة كالرافعة الميكانيكية والسيارات رباعية الدفع الثقيلة قد تنفع لأغراض إنسانية خلال الحروب والكوارث.
• معلوم أنه ليس لدى سويسرا موارد بترولية، ولا مناجم ألماس، فقوتها الاقتصادية الكبرى تتمثل في نظامها البنكي الغني. أليس ممكناً لقطر أن تنافس سويسرا في نجاح قطاعها البنكي، وتصبح من أكثر أماكن الثروات أمناً في العالم؟ قد يكفي لتحقيق ذلك قرار استراتيجي، فسياسات الدولة الضريبية قد تتغير، لكي تخلق بيئة ديناميكية تساعد على ازدهار الصناعة البنكية. وبذلك، قد يتنوع الاقتصاد القطري، وينتقل من الاعتماد الثقيل على واردات النفط والغاز، وقد تبدأ الثروة العالمية في ضخ الاقتصاد الداخلي. وبضخ بعض التريليونات من الدولارات في البنوك، على مر السنوات العشر المقبلة، قد تتضخم تجليّات القوة الناعمة لدولة قطر بشكل ملحوظ.
• لا يمكن لكأس العالم 2022 أن يكون غاية في حد ذاته، بل يجب أن يكون وسيلة من أجل
لن تساهم الرياضة فقط في الرفع من صورة قطر والتعريف بها بطلاً دولياً في طُرق الحياة السليمة والتفكير الإيجابي، بل ستساهم أيضا في القضاء على الانقسامات القبلية، والإثنية، واللغوية، والدينية وسط المجتمعات. إن حصول التناسق بين الأمة والدولة والرفع من التنافس الشريف دولياً قد يغير من نظرتنا التشاؤمية لمنطلقات نظرية صراع الحضارات، أو الفوارق الطبقية.
• وفي حين تهدف قطر إلى الرفع من مستويات الاختراع، على مدى سنوات، يبقى الوصول إلى المخترعين الشباب عملية بطيئة ومستعصية. وقد يكون من المستحسن التفكير في طريقة ذكية، من أجل الوصول إلى الثمار سهلة القطف، أي الأبحاث الإبداعية والاختراعات التي تبقى حبيسة مكتبات جامعات الدول الإسلامية. وبسبب قلة الموارد، لا تذهب أحسن الأبحاث والاختراعات بعيداً. لذلك، عوض دفع أموال طائلة لمختصين أوروبيين وأميركيين، قد يكون من الأفضل تخصيص ميزانية معينة، لتشجيع الأبحاث الآتية من العالم العربي الإسلامي، مما سيعطي دفعة قوية لصورة قطر الدولية قوة ناعمة، وسيدر فوائد كثيرة على اقتصاد الدولة المعرفي في مجالاتٍ كالفلاحة والصحة، أو الهندسة والاكتشافات الفضائية. كل ما تحتاجه العقول النيرة هو أن يؤمن بها ناصح أمين. ومن المؤسف ملاحظة هذا الكم الهائل من هجرة الأدمغة المسلمة إلى شتى بقاع العالم، من أستراليا إلى إسكندينافيا، ومن أوروبا إلى أميركا. أصبحت الأزمنة الحالية أكثر تحدّياً، خصوصاً مع تفاقم موجة الإسلاموفوبيا في أوروبا مع أزمة اللاجئين، وأخيراً، هجمات باريس المميتة. لذلك، وفي ظل هذه الأزمة، قد تستمر قطر في استيراد اليد العاملة الأقل حرفية من الهند وبنغلاديش وحتى الفليبين.
تستدعي صورة قطر قوة ناعمة مزيداً من النظر والتخطيط، من أجل تنويع الاقتصاد، والرفع من الاعتماد الداخلي على التغذية والمنتوج الفلاحي، لأن كليهما قد يشكلان عائقاً كبيراً من أجل الحفاظ على سياسة خارجية وأمنية مستقلة، في الآتي من الزمن. وما زالت الدراسة التي أنجزها رئيس برنامج قطر الوطني للأمن الغذائي، الدكتور فهد بن محمد الطايع، تنتظر التطبيق أو المراجعة.
يعود هذا التطور الملحوظ والمتماسك لقوة قطر الناعمة، وتحولها إلى قوة ذكية، إلى رؤية أمير قطر، الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، وفريقه الشاب الديناميكي. كما أن قطاع الدولة العمومي الداعم للتغير والتحديث أمامه طريق طويل. وفي حين تُصرف بلايين الدولارات كل سنة على التحديث، يبدو أن الانتباه إلى معدل النمو لا يأخذ حظه الكافي من الاهتمام. في هذا الخضم، تطرح أسئلة من قبيل: كيف تتدبر قطر أمرها في مصفوفة النجاح السنوي؟ وهل تعتمد كل مجهوداتها على التنسيق والتزامن، من أجل الوصول إلى نتائج ملموسة أو اعتبارية؟ من البديهي أن المجتمعات غيرُ محصنة من الأزمات، اجتماعيةً أم مالية. لكن الضّامن الأساسي يبقى تطوير نظام توقّعي استباقي. وهذا لا يتعلق بقطر وحدها، وإنما بجميع الدول الأعضاء في مجلس التعاون الخليجي، خصوصا مع المتغيرات الأمنية والديناميكية الاقتصادية في المنطقة. مرة أخرى، وبدل الاعتماد على خبراء وتكنوقراطيين دوليين، قد يكون من الأنفع والأفيد الاعتماد على تشكيلة من خبراء خليجيين، من أجل الخروج بتقييمات موضوعية، والعمل على إيجاد حلول مستقبلية للبلد. إن سمعة قطر معقلاً للإبداع والاختراع في العالم الإسلامي، وجسراً مع الغرب، سوف تشجع قوتها الناعمة عبر البسيطة.