قمة ترامب - جونغ في هانوي.. سوء الحسابات واختلاف التقديرات
تباين الأولويات
من الناحية المبدئية، ثمة توافق بين الجانبين الأميركي والكوري الشمالي، على أن الهدف الرئيس من أي اتفاق مستقبلي بينهما هو نزع سلاح كوريا الشمالية النووي، وتفكيك برنامجها النووي كليًا، وبطريقة يمكن التحقق منها، مقابل رفع العقوبات الاقتصادية الأممية المفروضة عليها، في عامي 2016 و2017، وفك عزلتها الدولية. وقد أكد الزعيمان في مؤتمرهما الصحافي، قبل بدء محادثات مغلقة، هذا الهدف؛ إذ قال ترامب إن كوريا الشمالية ستصبح "قوة اقتصادية"، إذا ما توصل الطرفان إلى اتفاق. في حين أكد جونغ أن بلاده تريد نزع سلاحها النووي ضمن اتفاق. وكان المسؤولون الأميركيون يأملون في أن تؤدي قمة هانوي إلى نتائج ملموسة، بدلًا من البيان الغامض الذي أصدره الزعيمان بعد اجتماعهما الأول في سنغافورة،
في حزيران/ يونيو 2018، والذي لم يتضمن تعهدًا كوريًّا شماليًّا صريحًا ببدء نزع السلاح النووي مباشرة، وإنما نص على "نزع السلاح النووي بالكامل من شبه الجزيرة الكورية".
غير أن التوافق في الإطار العام يخفي خلافًا كبيرًا في التفاصيل، إذ كان واضحًا منذ البداية أن ثمة تباينًا في أهداف الطرفين من القمة وتفاوتًا في توقعاتهما منها. تقوم المقاربة الأميركية على أن الأولوية ينبغي أن تكون نزع أسلحة كوريا الشمالية النووية، ثم يأتي موضوع رفع العقوبات عنها. وفي المقابل، أصرت بيونغيانغ على أن يكون تفكيك برنامجها النووي على نحو تدريجي، وأن يرافق ذلك تخفيف للعقوبات الاقتصادية عليها، إضافة إلى تحسن في العلاقات الدبلوماسية مع الولايات المتحدة، وحليفتها كوريا الجنوبية. ورغم انهيار المحادثات حاولت إدارة ترامب أن تضفي مسحة إيجابية عليها، إذ أشار بيان للبيت الأبيض إلى أنه على الرغم من "عدم التوصل إلى اتفاق هذه المرة"، فإن ترامب وجونغ "عقدا اجتماعات جيدة وبناءة"، و"ناقشا طرقًا مختلفة للتقدم في ملف نزع السلاح النووي والقضايا الاقتصادية". أما كوريا الشمالية، والتي كانت تصريحات مسؤوليها أكثر وضوحًا بخصوص فشل القمة، فقد حاولت الحفاظ على الخيوط غير مقطوعة عبر تصريح نشرته وكالة أنبائها المركزية، جاء فيه: إن جونغ وترامب اتفقا على "مواصلة الحوار المثمر".
أسباب فشل القمة
اختلف الطرفان في تحديد أسباب فشل المحادثات وانفضاضها من دون اتفاق. وثمة روايتان في ذلك:
أولًا: الرواية الأميركية
ألقت واشنطن بمسؤولية فشل القمة على إصرار كوريا الشمالية على رفع كامل العقوبات الأممية عنها مقابل تنازلات نووية رأتها الولايات المتحدة غير كافية. وتربط الولايات المتحدة رفع العقوبات بتخلص كوريا الشمالية من كل أسلحتها النووية، والمنشآت التي تصنع فيها تلك الأسلحة، والمواد التي تدخل في صناعتها. وبحسب واشنطن، فقد عرض الكوريون الشماليون تفكيك المنشأة النووية الرئيسة لديهم في يونغبيون، وهي الوحيدة التي تنتج بلوتونيوم لصنع القنابل، لكنهم لم يأتوا على موضوع إغلاق مرافق سرية أخرى لتخصيب اليورانيوم. وقد أصر الأميركيون على خطة أكثر وضوحًا وشمولًا من تلك التي عرضتها بيونغيانغ. وتخشى الولايات المتحدة من أن رفعًا كليًا للعقوبات، طلبته كوريا الشمالية، قد يعني توفير مليارات الدولارات يمكن أن تستخدمها بيونغ يانغ في تطوير أسلحتها للدمار الشامل.
ثانيًا: الرواية الكورية الشمالية
لم يتأخر رد بيونغيانغ على الرواية الأميركية، إذ عقد وزير خارجيتها، ري يونغ هو، مؤتمرًا صحافيًا مساء اليوم الذي انهارت فيه المحادثات، زعم فيه أن بلاده طلبت رفع بعض العقوبات
التي تمس المدنيين مباشرة، وليس كلها. وبحسب ري، فإن بيونغيانغ اقترحت تفكيك موقع يونغبيون، على نحو "نهائي" و"كامل"، بوجود مراقبين أميركيين، فضلًا عن وقف التجارب النووية لمدة عام واحد، وكذلك تجارب الصواريخ الباليستية، مقابل رفع بعض العقوبات الاقتصادية، غير أن واشنطن أصرت على خطوات إضافية أخرى. وقال ري إن ما عرضته بلاده يمثل الحد الأقصى الذي يمكن تقديمه، نظرًا إلى مستوى الثقة الحالي بين البلدين. وقال نائب وزير الخارجية الكوري الشمالي، تشوي سون هوي، إن رد فعل ترامب على العرض الذي قدمته بلاده فاجأ جونغ. وأضاف أن هذا الأخير "ربما فقد الرغبة في مواصلة التفاوض بين كوريا الشمالية والولايات المتحدة".
حسابات ترامب
بغض النظر عن من المسؤول عن فشل القمة، يبدو واضحًا أن ترامب ربما بالغ في الرهان على قدراته التفاوضية الشخصية، رغم تحذير الوكالات الاستخباراتية الأميركية ومستشاريه، من أن جونغ يُستبعَد أن يتخلى عن ترسانة أسلحته النووية كليًا، باعتبارها ضمانة لاستمرار نظامه. وتقدر الاستخبارات الأميركية أن لدى كوريا الشمالية ما بين 30 إلى 60 رأسًا نوويًا، إضافة إلى صواريخ باليستية عابرة للقارات مؤهلة لحمل رؤوس نووية، وقادرة، نظريًا، على ضرب الولايات المتحدة. وقد ساور القلق مسؤولين في الإدارة، والوكالات الاستخباراتية،
إضافة إلى أعضاء في الكونغرس، من أن ترامب قد يقدم تنازلات كبيرة لجونغ، وذلك في محاولة لصرف الانتباه عن شهادة محاميه السابق مايكل كوهين في الكونغرس، والتي كانت ضربة سياسية كبيرة له. وتخوف هؤلاء من أن تنازلات محتملة وغير مدروسة يقدمها ترامب قد تمس الأمن القومي الأميركي، وتبدد أوراقًا قوية في يد الولايات المتحدة، للضغط على كوريا الشمالية لنزع أسلحتها النووية.
ورغم النصائح التي تلقاها ترامب من مستشاريه ووكالات بلده الاستخباراتية، بعدم عقد القمة في المرحلة الراهنة، على أساس أن كوريا الشمالية ليست مستعدة بعد لقبول المطالب الأميركية، فإن ترامب بدا مقتنعًا بقدرته على التأثير في جونغ في مفاوضات ثنائية. ولعل في إدراج البيت الأبيض حفل توقيع اتفاق في جدول أعمال ترامب ما يشير إلى المبالغة المفرطة في توقعات النجاح. وقد أدّى وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو، ومستشار الأمن القومي، جون بولتون، دورًا كبيرًا في إقناع ترامب بالانسحاب من المحادثات إذا لم تستجب بيونغيانغ للشروط الأميركية بالكامل.
خلاصة
على الرغم من صعوبة التكهن بمسار العلاقات الأميركية - الكورية الشمالية بعد فشل قمة هانوي، فإن الأرجح أن تستأنف الدولتان المفاوضات بينهما خلال الأسابيع والأشهر المقبلة، وخصوصًا أن ترامب وجونغ لهما مصلحة في ذلك. اذ يجد ترامب نفسه أسير الصورة التي يسوّقها عن نفسه، بوصفه مفاوضًا بارعًا وصانعًا للصفقات، خصوصًا أنه استثمر كثيرًا في إمكان تحقيق سلام مع كوريا الشمالية، وبالغ في مدح جونغ والعلاقة التي طورها معه. ومن هنا يمكننا فهم نبرة ترامب الإيجابية الحذرة بعد فشل المحادثات، وحديثه عن "انسحاب ودي" أمام مطالب بيونغيانغ غير الواقعية، وقوله إنه متفائل بشأن المستقبل على أساس "العلاقة الجيدة جدًا" بينه وبين جونغ، فـ "هو يحبني وأنا أحبه". أما جونغ فتبدو حساباته أكثر تعقيدًا. فمن ناحية، هو يحتاج إلى الحفاظ على صورة الزعيم القوي الذي يحظي بتعامل ندّي من رئيس الدولة العظمى الولايات المتحدة. ومن ناحية ثانية، هو مضطر إلى استكمال هذا المسار؛ ذلك أن العقوبات الاقتصادية الأممية على بلاده قد اشتدت وطأتها، ما يؤثر في وضعه الداخلي. إلا أن استمرار المفاوضات يضع نظامه، من ناحية ثالثة، أمام معضلة فعلية؛ ذلك أن البرنامج النووي لبلاده هو الضمان الرئيس لبقاء نظامه. ومع ذلك، سوف يستمر الطرفان في الوقت الحاضر في تجنب التصعيد؛ إذ تعهدت كوريا الشمالية بعدم القيام بتجارب نووية جديدة وعدم إطلاق صواريخ باليستية، فضلًا عن تمسكها والولايات المتحدة بخيار المفاوضات، كما تواصل وزارة الدفاع الأميركية الامتناع عن إجراء مناورات عسكرية كبيرة مع كوريا الجنوبية، على أمل استئناف المفاوضات قريبًا.