يواصل رئيس الحكومة التونسية المكلف، هشام المشيشي، مشاوراته بشأن تشكيل الحكومة. والتقى الأربعاء الماضي عدداً من الكتل النيابية، عبّر بعضها عن دعمه لخيار حكومة الكفاءات المستقلة، مثل كتلة الحزب "الدستوري الحر" وكتلة "تحيا تونس" وكتلة "الإصلاح"، بينما عارضت الكتل الأكبر؛ "النهضة" و"قلب تونس" و"الكتلة الديمقراطية" (تضم التيار الديمقراطي وحركة الشعب) و"ائتلاف الكرامة"، هذا الخيار واعتبرته ضرباً لمنظومة الأحزاب، والتفافاً على نتائج الانتخابات.
وأكد رئيس كتلة "ائتلاف الكرامة"، سيف الدين مخلوف، في تصريح إعلامي إثر لقائه المشيشي، أنّ كتلته "ترفض حكومة التكنوقراط وتدعم حكومة ائتلاف سياسي موسّع، تتحمّل مسؤوليتها أمام الشعب التونسي". وأضاف أنه بيّن لرئيس الحكومة المكلّف "أهمية مراعاة التوازنات السياسية داخل مجلس نواب الشعب، على اعتبار أنّ المؤسسة البرلمانية هي التي ستقرّر المصادقة على الحكومة المرتقبة أو إسقاطها".
وشدّد مخلوف على "أهمية الإنصات للأحزاب وتصوّراتها حول هيكلة الحكومة المرتقبة وبرامجها وسياساتها"، مشيراً إلى أنّ نتيجة اللقاء مع المشيشي "لم تكن إيجابية على الرغم من ثراء النقاش". وقال إنّ ائتلاف الكرامة "مستعدّ لانتخابات تشريعية مبكرة محتملة، إذا لم تمر حكومة هشام المشيشي".
تساءل القروي عن "جدوى إنجاز الانتخابات مادام المستقلون سيحكمون"
إلا أنّ بعض التصريحات الأخرى بدأت تخرج عن تحفظها، وتحمّل المسؤولية مباشرة للرئيس قيس سعيّد، الذي يقف، بحسب رأيها، خلف هذا الخيار (حكومة مستقلين)، بهدف إحداث تغيير جذري في التوازنات السياسية في البلاد، وكذلك إحداث تغيير غير معلن في النظام، من برلماني إلى رئاسي مقنّع.
وبعد لقائه المشيشي، اعتبر رئيس حزب "قلب تونس"، نبيل القروي، أنّ تونس "تعيش على وقع مشهد سياسي سريالي، لأنّ من يفوز في الانتخابات لا يحكم"، مضيفاً أنهم يفهمون خلفية ذلك، وأنّ هذه الحكومة "هي حكومة الرئيس".
وقال "لو أراد رئيس الجمهورية أن تشارك الأحزاب في الحكومة، لما اقترح المشيشي. هذه حكومته، وهو من اختارها وعليه تحمّل المسؤولية". وطالب المشيشي بتقديم "البرنامج والخيار الذي سيتبعه ورؤيته الاقتصادية والحلول لمشاكل البلاد". وتساءل القروي عن "جدوى إنجاز الانتخابات مادام المستقلون سيحكمون".
بدوره، قال النائب عن ائتلاف "الكرامة"، عبد اللطيف العلوي: "ما الجدوى من أن يقوم المشيشي بدعوة الأحزاب وممثلي الكتل البرلمانية ويوهمهم بأنّ ذلك يأتي في إطار عملية تشاور جدية، وهو في النهاية لديه تركيبة حكومية جاهزة في الدرج وليس هو أصلاً من جهزها، وإنما الأطراف النافذة في ديوان رئيس الجمهورية وعلى رأسهم مستشارة ديوان رئيس الجمهورية نادية عكاشة". وتساءل العلوي في حوار مع إذاعة "ديوان" المحلية: "ما معنى حكومة تكنوقراط؟ وهل يوجد فعلاً شيء اسمه كفاءات مستقلة؟". وانتقد العلوي طريقة إدارة المشيشي لمشاورات تشكيل الحكومة، منبهاً من "اختيار شخصيات على أساس الولاء والزبونية ومن ثمّ التسويق للحكومة على أنها حكومة كفاءات مستقلة".
وتؤكد هذه التصريحات مخاوف العديد من الأحزاب من الانزياح تدريجياً وواقعياً، وليس دستورياً، من نظام برلماني إلى نظام رئاسي، يختار فيه رئيس الجمهورية رئيس الحكومة ووزراءها أيضاً، ويتحكّم في مصيرها، في حين يكون دور البرلمان مجرد مراقب للحكومة، وتُقصى الأحزاب من أي دور تنفيذي على الأرض.
وكانت كلمة المشيشي واضحة تماماً حين صرّح قبل أيام بأنّ "التفاعل مع الأحزاب سيكون حول البرنامج، إيماناً بدورها في خدمة البلاد"، مشيراً إلى أنّ "الحكومة وضعت برنامجاً يقوم على الرفع من موارد الدولة ومن مكتسبات المؤسسات وتطوير مناخ الاستثمار". وهو ما يعني أن الأحزاب لا تتدخل في تحديد ماهية هذا البرنامج، على الرغم من صعوبة هذا الأمر فعلياً عندما تتشكل الحكومة، لأنّ البرلمان بإمكانه مراجعة كل المشاريع والقوانين وتعديلها.
وعلى الرغم من أنّ سعيّد احترم الدستور، حرفياً، إلا أنّه بحث عن نقاط ضعفه وتناقضاته وأصبح اللاعب الرئيسي في النظام السياسي، بعدما كان دوره ثانوياً خلف البرلمان وبصلاحيات محدودة جداً.
فبعد سقوط حكومة الحبيب الجملي، آل اختيار رئيس الحكومة مباشرة إلى سعيّد، الذي عيّن إلياس الفخفاخ على رأس حكومة تشارك فيها الأحزاب. ولكن ذلك الخيار لم يمكّنه من التحكم في الآليات التنفيذية التي تتيح تنفيذ برنامجه الانتخابي، وهو الذي أعلن صراحة عن مشاريع ينوي استحداثها على الأرض، كمستشفيات في الجهات ومشاريع تنموية، وأشرف بنفسه على اجتماعات وزارات تقنية هي من صميم عمل الحكومة، بما يؤكد أنه يحمل برنامجاً متكاملاً وليس مجرد فكر سياسي، ولا يريد أن يلقى نفس مصير سلفه الراحل الباجي قايد السبسي الذي كان مكبلاً بالصلاحيات المحدودة دستورياً، مع أنّ التونسيين كانوا يطالبونه بقرارات ومشاريع تغيّر حياتهم على الأرض وليس مجرّد خطابات.
يضع سعيّد والمشيشي، الأحزاب السياسية في مأزق حقيقي
وللتذكير، فقد قال سعيّد صراحة يوم تكليف المشيشي: "نحترم الشرعية، لكن آن الأوان لمراجعتها حتى تكون بدورها تعبيراً صادقاً وكاملاً عن إرادة الأغلبية"، وجاء المشيشي ليعلن بعد ذلك أنّ حكومته ستكون مستقلة "تماماً"، وهو إعلان نابع من قراءة واضحة للرجلين للمشهد السياسي. والمشيشي هو المستشار القانوني السابق لسعيّد، الذي كان اقترحه لتولي وزارة الداخلية في الحكومة السابقة، ما يعكس تفاهماً بينهما واتفاقاً على الوضع السياسي في البلاد وعلى طريقة تغييره أيضاً.
ويضع سعيّد والمشيشي الأحزاب السياسية في مأزق حقيقي؛ أولاً بتوريطها أمام التونسيين والتأكيد على أنّ خلافاتها المتواصلة وصراعاتها هي سبب الأزمة وهي التي قادت إلى هذا الخيار الأمثل المتمثل بحكومة كفاءات مستقلة، بحسب تأكيد المشيشي أخيراً. ثانياً، فإنّ خيارات الأحزاب محدودة جداً، وليس أمامها إلا المصادقة على الحكومة أو حلّ البرلمان والذهاب إلى انتخابات جديدة. ولكن الدعوة للانتخابات غير محدودة بفترة زمنية، بما يعني أنّ سعيّد يمكن أن يحكم بحكومة تصريف الأعمال إلى حين يقرر الدعوة لإجراء الانتخابات، وهو ما لا يترك إلا خياراً واحداً أمام الجميع، المصادقة على الحكومة وربما إسقاطها بعد ذلك.