لعلّ كتاب "قيمة القيم" (2007) للمهدي المنجرة (1933-2014) الأكثر وضوحاً في سعيه إلى تأسيس ذات عربية تتخلّص من جَلد نفسها وتتحسّس مسؤوليتها الأخلاقية والنفسية باعتبارها ذاتاً من الكل العالمي، كان لها تاريخها وما زالت قوةً تمتلك ما يؤهلها إلى المساهمة وتقاسم الشراكة مع العالم الغربي.
الكتاب ليس سهلاً، لتوسعهِ في مواضيع عميقة ومختلفة. فهو يتضمن المحاضرات والآراء والحوارات التي شكّلت عصب المعرفة لدى المنجرة ومكّنته من فرض نظرته المفككة للبنى التحتية للأفكار، وصوته الخاص، بين مجموع المشتغلين عالمياً على موضوعة "المستقبليات" ونظم العلاقات التي تتحكّم بالصراعات الدولية.
كتابٌ إجرائي متقدم، يطرح صاحبه السؤال فيه متصوراً الأجوبة والحلول، على غير طريقة "الحداثيين" الذين يكتفون بطرح الأسئلة. يتألف الكتاب من ثلاثة أجزاء، أولها "القيم والمجتمع الذي يبحث في التنمية والتعليم، والعمر الزمني للكتابة، ثم جزآن آخران هما: "العلاقة بين القيم والإبداع" و"مكانة الذاكرة" بوصفها قيمة لا تقبل النسيان أو التناسي.
يرى المنجرة في التنمية جزئية مستقبلٍ قليلة الجدوى فيما لو صُبَّت "في قالب ربّاني محض"، تندمج في المستقبليات التي تعتبرها ظاهرة باطنية لها أهداف ومقاصد تسبقها وتحدد مسارها. وفي مقاربته لها، يخلّص المنجرة جملته الفكرية من الضعف الذي قد يصيبها فيما لو بقيت على حالتها (السبحانية) كنمط تفكير ينسبه الكثيرون للعرب، وفيه شيء من الاستلاب، ينتصر المنجرة عليه بتناوله "ميكانيزمات" القوة في دول "حوض البحر الأبيض المتوسط"، وإمكانية مقاومة الإثنو مركزية والهيمنة الثقافية و"الاعتداءات ذات الصبغة الثقافية"، وهي الأخطر بالتأكيد.
وفي هذا السياق، يكشف المفكّر المغربي كيف يأخذ الإعلام والأفكار شكلاً استعمارياً، فيضع اللغة محل الحرب التقليدية القديمة، مستشهداً بمفكّر فرنسي قال إن "الحروب المقبلة ستكون لغوية". كما يبيّن أن السلوكيات اليومية وطريقة الحياة هي ما يحدد العلاقات أعلى وأدنى، شرق وغرب، شمال وجنوب. وحول الثنائية الأخيرة، يجد أن الشمال قصّر في تعلّم لغة الجنوب، وأن الغرب بهواجسه المتغيرة، إلا حيال الإسلام المقترن عنده بـ"الإرهاب"، يجعل الحرب حرب قيم بدلاً من حرب أديان.
وعليه لا يمكن التفلُت من هذا الخلل/الجوهر إلا بالانخراط في حالة ثقافية حقيقية، تقوم على فهم الآخر واحترامه وتقدير منجزه التاريخي، وفروقاته النفسية والاجتماعية، والنظر إلى تلك الفروقات على أنها إغناء للتنوع الأممي، وتنقية نظرة الساسة الغربيين إلى الشرق أو الشمال من الريبة.
"قيمة القيم"، في تشعبه وإجرائيته، كتاب يجعلُ المتلقي رهن متابعة حثيثة ومسؤولة، يحاول المنجرة فيه تقديم نمط تفكير يقوم أساساً على القيم، مضمناً إياها التنمية والتعلم والتربويات بمناهجها المتماشية مع التحولات والتغيرات التي تفرضها الديموغرافيا؛ وكذلك والإبداع لما له من إيلاء أهمية للفرد وخياراته، وهو ما يدخل في حيز اجتراح الحلول والبدائل للمشاكل المستعصية. وما تخصيص الجزء الأخير من الكتاب لباحثين ومفكرين أثّروا في المشهد الثقافي المغربي خصوصاً، إلاَّ تسليط للضوء على المهمَّش أو المغيَّب.
المنجرة مفكّر صانع للأفكار وليس لائكاً للنظريةِ، وهو باحث خاض في مواضيع مستقبلية لا تأخذ بالجاهز بقدر ما تصوغ رأيها وتُخلص له.