ما تراها قالت عيناه حين التقتا بعيني قاتله.. لحظة الضغط على الزناد لإيقاف قلبه عن النبض بالحياة والمحبة؟ هل أرسل ناجي ابتسامته المعتادة لقاتله لحظة الانفصال عن الحياة والركون للموت المفجع؟
لعل القاتل رأى في عينيه نظرة لوم على فعلته، وهو الذي لم يكن يحب القتل ولا يريد لسوري أن يكون قاتلاً.. من المؤكد أنه سمع صرير قلبه يناديه (انتظر سأهدي لك موالاً يحنّ له قلبك المتعب بسموم الحقد والقتل .. قبل أن تطلق عليّ رداءك الأسود).. هل رأى ناجي إصرار التوحش في نظرة قاتله، وهو يقول: (سأقتلك باسم الظلام المعشش في قلوبنا.. سأقتلك باسم القذارة التي تلف ذواتنا)!
في نهاية عام 2011 كنا ثلاثة نلتقي للمرة الأولى في دمشق، ثلاثة نمثل ثلثي السوريين على الأقل، بحسب الخارطة القبيحة التي وسمنا بها العالم، كان كل واحد منا ينتمي لمدينة تختلف عن مدينة الآخر، وكل ينتمي لطائفة تختلف عن الآخر، هكذا قال "معن" يومها.
ضحكنا من الفكرة وران بيننا صمت التعارف الأول، لم تكن طويلة هذه اللحظات، التي كسرت هدوءها ضحكة ناجي الوادعة، حيث كان قد وصل دمشق للتو متعباً من رحلة مليئة بالحواجز، التي قد تسوقك إلى معتقل وراء أبوابه آلاف المتعبين، أو أن أحدهم قد يجعل من اسم مدينته "سلمية" مبرراً لتهور غير محسوب.. أنفاسه التي كان يحبسها طوال رحلته الشاقة، أطلقها في تلك الغرفة الصغيرة، في إحدى الضواحي الآمنة لمدينة دمشق، قبل أن تصبح دمشق مستباحة لكل شيء!
ليل دمشق وبردها نالا مني، فركتُ كفيّ ببعضهما لأبعث الدفء فيهما، نظر إلي ناجي مبتسماً ودفع بالمدفأة الكهربائية باتجاهي، كان ليل دمشق متعباً.. بارداً.. وباهتاً، غير أن طبق "الفاصولياء" الذي صنعه معن بطريقته الفريدة مع "الثوم" جعل ضحكاتنا تعلو.. نتبادل النظرات أنا وناجي محاولين فهم طلاسم هذه الوجبة الغريبة.. وناجي يسأله "هل نموت إن أكلنا هذا الاختراع؟".
نعود للضحك، بينما يحاول "معن" جاهداً إقناعنا بأنه طبقه المفضل، الذي لا يمكنه الاستغناء عنه، وبطريقة أشبه بالإعلانات التجارية، أجبرنا على أكل الفاصولياء.. أكلنا.. وضحكنا.. وتهكمنا.. حديث الثورة والمظاهرات، ومغامرات معن في "دوما"، وتصوير ناجي لمظاهرات "السلمية" جعلاني أشعر بالدفء، وأبعد ليل دمشق البارد من جسدي المتعب.
ليل دمشق الشتوي القارس.. وتلك اللحظات الصقيعية، كان أدفأ بكثير من الظهيرة "العينتابية" المشمسة.. كان يومها البرد جليّ الملامح.. والخوف من البطش كان هاجس الجميع..
في "عينتاب".. كان كاتم الصوت اللعين يصرخ كالوحش الكاسر وينقضّ على فريسته الطيبة وينهش آخر كلمة تقولها الفريسة، ليخنق صوتها المتهدّج: (لن تستطيع هزيمتي)، ليخرج كلّ الحقد المعشش، والقيح والصديد اللذين يختزنهما في طلقاته.. من فوهته القذارة السوداء، لتغطي سنابل الحنطة التي كان "ناجي" يبذرها في صحراء السواد، ممنياً النفس أن ترتفع تلك السنابل الصفراء الذهبية، وتعكس ضوء الشمس، لتزيل تلك القذارة القاتمة..
كان "الخال" يكره "الفزّاعات" التي تخيف الطيور الجميلة.. لذلك رفض أن ينصبها في حقل حنطته، فانقضت الغربان على الحقل.. لتحيله صحراء قاحلة...
وحده قلبه المتعب، الذي لم يكن يستطيع تحمل مغادرة الناشطين الذين دربهم بمحبة الأب لكادر الحقيقة، الذي لطالما قصّ حكايا الثورة.. والشهداء.. والمعتقلين.. كان يفرد صفحات حنطته لهم حباً، وينعاهم كرهاً بجملته الشهيرة (فتت روحي يا شهيد)؛ وحده ذلك القلب هو من أرشف حكاية ناجي.. وأضافها إلى سجل الحكايا..
غادر ناجي الكادر الذي حمله بين قلبين.. قلب ثائر وقلب محب.. ثائر من أجل وطن المحبة ومحب لثورة قدمت أغلى ما تملك.. (فتت أرواحنا يا شهيد) وأنت تغادر كادرك الأخير.. لنهيل على قبرك شذرات من ذهب الحنطة التي لطالما نثرتها في بيادرنا.
أشاهد القلوب الملتفة حول قبرك يا صديقي. وأتذكر تلك الليلة الشتوية في دمشق.. يومها كنت من كسر صقيع الجلسة.. غير أنني في أسوأ كوابيسي، لم أتخيل أن يكسر جثمانك ذلك الجليد الذي كسا قلوب كل السوريين!
(سورية)
لعل القاتل رأى في عينيه نظرة لوم على فعلته، وهو الذي لم يكن يحب القتل ولا يريد لسوري أن يكون قاتلاً.. من المؤكد أنه سمع صرير قلبه يناديه (انتظر سأهدي لك موالاً يحنّ له قلبك المتعب بسموم الحقد والقتل .. قبل أن تطلق عليّ رداءك الأسود).. هل رأى ناجي إصرار التوحش في نظرة قاتله، وهو يقول: (سأقتلك باسم الظلام المعشش في قلوبنا.. سأقتلك باسم القذارة التي تلف ذواتنا)!
في نهاية عام 2011 كنا ثلاثة نلتقي للمرة الأولى في دمشق، ثلاثة نمثل ثلثي السوريين على الأقل، بحسب الخارطة القبيحة التي وسمنا بها العالم، كان كل واحد منا ينتمي لمدينة تختلف عن مدينة الآخر، وكل ينتمي لطائفة تختلف عن الآخر، هكذا قال "معن" يومها.
ضحكنا من الفكرة وران بيننا صمت التعارف الأول، لم تكن طويلة هذه اللحظات، التي كسرت هدوءها ضحكة ناجي الوادعة، حيث كان قد وصل دمشق للتو متعباً من رحلة مليئة بالحواجز، التي قد تسوقك إلى معتقل وراء أبوابه آلاف المتعبين، أو أن أحدهم قد يجعل من اسم مدينته "سلمية" مبرراً لتهور غير محسوب.. أنفاسه التي كان يحبسها طوال رحلته الشاقة، أطلقها في تلك الغرفة الصغيرة، في إحدى الضواحي الآمنة لمدينة دمشق، قبل أن تصبح دمشق مستباحة لكل شيء!
ليل دمشق وبردها نالا مني، فركتُ كفيّ ببعضهما لأبعث الدفء فيهما، نظر إلي ناجي مبتسماً ودفع بالمدفأة الكهربائية باتجاهي، كان ليل دمشق متعباً.. بارداً.. وباهتاً، غير أن طبق "الفاصولياء" الذي صنعه معن بطريقته الفريدة مع "الثوم" جعل ضحكاتنا تعلو.. نتبادل النظرات أنا وناجي محاولين فهم طلاسم هذه الوجبة الغريبة.. وناجي يسأله "هل نموت إن أكلنا هذا الاختراع؟".
نعود للضحك، بينما يحاول "معن" جاهداً إقناعنا بأنه طبقه المفضل، الذي لا يمكنه الاستغناء عنه، وبطريقة أشبه بالإعلانات التجارية، أجبرنا على أكل الفاصولياء.. أكلنا.. وضحكنا.. وتهكمنا.. حديث الثورة والمظاهرات، ومغامرات معن في "دوما"، وتصوير ناجي لمظاهرات "السلمية" جعلاني أشعر بالدفء، وأبعد ليل دمشق البارد من جسدي المتعب.
ليل دمشق الشتوي القارس.. وتلك اللحظات الصقيعية، كان أدفأ بكثير من الظهيرة "العينتابية" المشمسة.. كان يومها البرد جليّ الملامح.. والخوف من البطش كان هاجس الجميع..
في "عينتاب".. كان كاتم الصوت اللعين يصرخ كالوحش الكاسر وينقضّ على فريسته الطيبة وينهش آخر كلمة تقولها الفريسة، ليخنق صوتها المتهدّج: (لن تستطيع هزيمتي)، ليخرج كلّ الحقد المعشش، والقيح والصديد اللذين يختزنهما في طلقاته.. من فوهته القذارة السوداء، لتغطي سنابل الحنطة التي كان "ناجي" يبذرها في صحراء السواد، ممنياً النفس أن ترتفع تلك السنابل الصفراء الذهبية، وتعكس ضوء الشمس، لتزيل تلك القذارة القاتمة..
كان "الخال" يكره "الفزّاعات" التي تخيف الطيور الجميلة.. لذلك رفض أن ينصبها في حقل حنطته، فانقضت الغربان على الحقل.. لتحيله صحراء قاحلة...
وحده قلبه المتعب، الذي لم يكن يستطيع تحمل مغادرة الناشطين الذين دربهم بمحبة الأب لكادر الحقيقة، الذي لطالما قصّ حكايا الثورة.. والشهداء.. والمعتقلين.. كان يفرد صفحات حنطته لهم حباً، وينعاهم كرهاً بجملته الشهيرة (فتت روحي يا شهيد)؛ وحده ذلك القلب هو من أرشف حكاية ناجي.. وأضافها إلى سجل الحكايا..
غادر ناجي الكادر الذي حمله بين قلبين.. قلب ثائر وقلب محب.. ثائر من أجل وطن المحبة ومحب لثورة قدمت أغلى ما تملك.. (فتت أرواحنا يا شهيد) وأنت تغادر كادرك الأخير.. لنهيل على قبرك شذرات من ذهب الحنطة التي لطالما نثرتها في بيادرنا.
أشاهد القلوب الملتفة حول قبرك يا صديقي. وأتذكر تلك الليلة الشتوية في دمشق.. يومها كنت من كسر صقيع الجلسة.. غير أنني في أسوأ كوابيسي، لم أتخيل أن يكسر جثمانك ذلك الجليد الذي كسا قلوب كل السوريين!
(سورية)