07 نوفمبر 2024
كتابة دكاكين العطارة
لا أحب كتابة دكاكين العطارة، وخصوصاً التي يروَّج لها عالمياً، وتكوّن بطريقتها البهاليل والدراويش والبخور والطقوس والنقّاد غرباً أو شرقاً أو شمالاً أو جنوباً.
الكتابة أبيّة على أيّ دكان، هي ابنة آلام صاحبها فقط، بلا جوقة ولا مريدين، حتى وإن كانت بكماء، وتتحايل فقط من أجل توصيل نفسها من داخل "ضلوع صاحبها" إلى الورق.
الجاحظ والتوحيدي كانا يعلمان أن لهما جمهوراً في المخطوطات، يأمرهما بالسهر والكتابة، حتى وإن خرجا من العالم بلا نعيم أو تَرِكة، ولكن كانا يحسّان بأن هناك رجع صدى حميداً يردّده القلب، بعد انسكاب الحبر على الورق، وسماع صوت البلابل، وتلصص النجوم على فرح الكلمات وحدها، وهي في حضرة سرور القلب ووحدة الروح من غير أي سند.
الكتابة هي ذلك السهر من غير غاية، فكيف يذهب صاحب السهاد، سهاد الكتابة، إلى دكان عطارة كي يعطس مثلاً؟ أو يشرب، أو يتابع الموضة الرائجة في محلات الكتابة، أو يناوش ناقداً في مشربٍ لا يشتري الكتب من حرّ ماله أصلاً؟، أو يذهب إلى مترجمٍ كي يأخذ منه بركة مواصلة الكتابة، بعدما يعرض عليه الفصل الأول الذي يتعرّض لظاهرة "الخصاء" في القرون السالفة، كي يحظى بمنحة إلى أميركا ينتظرها على المقهى من سنتين.
أدمن جيل الستينيات تخزين "بلاليص الكآبة" في الكتب، فلما جاءت عربة التراث وخرج من حنفيتها الزيني بركات وغيره، صارت تجارة، وبيعت المخطوطات، حتى ملّ الناس الحكاية، كما ملّ الناس المتاهة البورخيسية أو القنوط الكافكاوي من العالم، فأي عالمٍ في ظل كل هذه الدكاكين كان سيستوعب سيوران بحدّته وقطيعته، وفرنادو بيسوا بأحلامه القاسية واستخفافه بوزن العالم، وجلوسه في شرفة الخيال في لشبونة، مادّاً رجليه إلى رأس الرجاء الصالح، من دون انتظار أي أملٍ في الكتابة أو في ما يكتبه، بعدما امتلأت صحّارته بالكتب من دون أن يرى نورها أحد.
فأي وزارة ثقافة مثلاً كان يمكنها أن تتوافق مع قنوط سيوران الأصيل، أو انفلات فرناندو بيسوا إلى ذاتٍ عصرت الكتب في رأسه، واستخلصت منها غراماً من حبرٍ ظل معه، حتى ملأ خزانته بالكتابة، من دون انتظار ناشر أو ملك أو أمل.
هل الكتابة هي ذلك الأمل النادر والغامض. أمل لا يضاهيه أمل، وغموض مفتوح على ضلوع صاحبه فقط. هناك خرافٌ كثيرة تجري وتبعّر وتبرطع من مؤتمر إلى آخر، ومن منتدى إلى آخر، ومن جامعة إلى أخرى، ومن مهرجان شعري إلى آخر، وتجري من صرعة إلى أخرى، ومن "تحكيم" إلى "تحكيم"، ومن جائزة إلى جائزة. وعلى الرغم من ذلك، تبقى الكتابة هي ذلك الصندوق السحري الغائب جداً عن هوس السوق وبهارات الدكاكين.
الكتابة هي المتعفّفة دائماً عن علف السلطة وعطورها، هي فيض صعلكة الأرواح في بهاء العالم وحيرته ونكده وهزائمه، هي عراك الروح مع لغتها، وعراك الروح مع ذئاب حقولها الساكنة فيها، فالمُهج دائماً محيّرة وعدوة، حتى لأصحابها كما يقال: "مهجتي ضد يحيرني أنا مني، فكيف أحترس؟".
الكتابة تلك التي تجدها مع السحر في طيّات ملابس التبريزي، وهو يهرب بسفينة روحه العاشقة والممزقة إلى حيث لا يعرف ولا يدري، فيحنو عليه الريحان مرغماً، ويشبع من ضحك النجوم بعد جوع تشرّد. ما أبعد الطرق، وما أتعس من ينتظر فتح الدكاكين التي تبيع صكوك الشهرة في عالمٍ مرتجفٍ، وينتظر الأمل، أي أمل.
الجاحظ والتوحيدي كانا يعلمان أن لهما جمهوراً في المخطوطات، يأمرهما بالسهر والكتابة، حتى وإن خرجا من العالم بلا نعيم أو تَرِكة، ولكن كانا يحسّان بأن هناك رجع صدى حميداً يردّده القلب، بعد انسكاب الحبر على الورق، وسماع صوت البلابل، وتلصص النجوم على فرح الكلمات وحدها، وهي في حضرة سرور القلب ووحدة الروح من غير أي سند.
الكتابة هي ذلك السهر من غير غاية، فكيف يذهب صاحب السهاد، سهاد الكتابة، إلى دكان عطارة كي يعطس مثلاً؟ أو يشرب، أو يتابع الموضة الرائجة في محلات الكتابة، أو يناوش ناقداً في مشربٍ لا يشتري الكتب من حرّ ماله أصلاً؟، أو يذهب إلى مترجمٍ كي يأخذ منه بركة مواصلة الكتابة، بعدما يعرض عليه الفصل الأول الذي يتعرّض لظاهرة "الخصاء" في القرون السالفة، كي يحظى بمنحة إلى أميركا ينتظرها على المقهى من سنتين.
أدمن جيل الستينيات تخزين "بلاليص الكآبة" في الكتب، فلما جاءت عربة التراث وخرج من حنفيتها الزيني بركات وغيره، صارت تجارة، وبيعت المخطوطات، حتى ملّ الناس الحكاية، كما ملّ الناس المتاهة البورخيسية أو القنوط الكافكاوي من العالم، فأي عالمٍ في ظل كل هذه الدكاكين كان سيستوعب سيوران بحدّته وقطيعته، وفرنادو بيسوا بأحلامه القاسية واستخفافه بوزن العالم، وجلوسه في شرفة الخيال في لشبونة، مادّاً رجليه إلى رأس الرجاء الصالح، من دون انتظار أي أملٍ في الكتابة أو في ما يكتبه، بعدما امتلأت صحّارته بالكتب من دون أن يرى نورها أحد.
فأي وزارة ثقافة مثلاً كان يمكنها أن تتوافق مع قنوط سيوران الأصيل، أو انفلات فرناندو بيسوا إلى ذاتٍ عصرت الكتب في رأسه، واستخلصت منها غراماً من حبرٍ ظل معه، حتى ملأ خزانته بالكتابة، من دون انتظار ناشر أو ملك أو أمل.
هل الكتابة هي ذلك الأمل النادر والغامض. أمل لا يضاهيه أمل، وغموض مفتوح على ضلوع صاحبه فقط. هناك خرافٌ كثيرة تجري وتبعّر وتبرطع من مؤتمر إلى آخر، ومن منتدى إلى آخر، ومن جامعة إلى أخرى، ومن مهرجان شعري إلى آخر، وتجري من صرعة إلى أخرى، ومن "تحكيم" إلى "تحكيم"، ومن جائزة إلى جائزة. وعلى الرغم من ذلك، تبقى الكتابة هي ذلك الصندوق السحري الغائب جداً عن هوس السوق وبهارات الدكاكين.
الكتابة هي المتعفّفة دائماً عن علف السلطة وعطورها، هي فيض صعلكة الأرواح في بهاء العالم وحيرته ونكده وهزائمه، هي عراك الروح مع لغتها، وعراك الروح مع ذئاب حقولها الساكنة فيها، فالمُهج دائماً محيّرة وعدوة، حتى لأصحابها كما يقال: "مهجتي ضد يحيرني أنا مني، فكيف أحترس؟".
الكتابة تلك التي تجدها مع السحر في طيّات ملابس التبريزي، وهو يهرب بسفينة روحه العاشقة والممزقة إلى حيث لا يعرف ولا يدري، فيحنو عليه الريحان مرغماً، ويشبع من ضحك النجوم بعد جوع تشرّد. ما أبعد الطرق، وما أتعس من ينتظر فتح الدكاكين التي تبيع صكوك الشهرة في عالمٍ مرتجفٍ، وينتظر الأمل، أي أمل.