في المدن الصغيرة جدّاً مثل مدينتي، يهتم الناس كثيراً بالأحلام، وأنا أفسّر هذا الاهتمام على أنه أمر للتسلية أو للخلاص من رتابة الحياة هنا وتشابه الأيام، فالكلّ موقن أن لا جديد سيحدث على الأمد القصير... والطويل أيضاً.
كان أبي يفيق فجراً فيوقظ أمّي، ليحكي لها حلمه خشية نسيانه في النهار، ثم يسألها في آخر اليوم أن تستذكر له الحلم، بينما نتحلّق نحن حول صينية الشاي. تتوسّطنا أمّي وهي تحمل كتاب تفسير الأحلام بين يديها، وتقرأ لنا - أنا وأبي وأخوتي – مُفسّرةً حلم البارحة. وبعد أن تنتهي منه، يتقافز الجميع وكلٌّ منا راغبٌ أن يحكي حلمه، لكنني أشعر أن أخي الصغير يحتال كثيراً، لأنه يذكر تفاصيل دقيقة جدّاً عن حلمه لا يمكن لأحدٍ أن يتذكّرها. ربما كان يفعل ذلك للتسلية، لأنه يملك موهبة جيّدة في حكي القصص.
لم تكن هذه العادة خاصّةً بعائلة دون أخرى. أغلب الأسر هنا تملك كتابَين رئيسيَّين هما الكتاب المقدّس وتفسير الأحلام، والذي ربما يكون مقدّساً أيضاً، فهو يحظى بالاحترام ذاته والتقبيل والحفظ، وأحياناً يُستعمل للقسم في الأمور الصغيرة.
صحيح أن مدينتنا لا تملك مكتبة لبيع الكتب لتوفّر كتاب التفسير للبيوت، ولكن صاحب محل بيع القرطاسية يوفر نسخاً كثيرة منه، وبأحجام مختلفة. وبمرور الوقت، اكتسبت النساء - ومن ضمنهن أمّي - خبرة واسعةً في مجال تفسير الاحلام، حتى أنها أحياناً تفسّر أجزاء من الحلم دون الرجوع إلى الكتاب.
سألتها مرّةً عن ذلك فأخبرتني ببعض القوانين، منها أن الحلم عكس الواقع، فلو حلمت أنك تموت، فهذا يدل على حياة طويلة في الواقع، أو أن تفقد حبيبتك فمعنى ذلك أنك ستتزوّجها قريباً وهكذا. أخبرتني، أيضاً، عن وجود بعض الأشياء التي تشير إلى معنى ثابت؛ فالعقرب مثلاً يشير إلى العدُو، والقطار إلى الحياة، والأفاعي إلى الهموم، وتوجد أشياء مبطلة للحلم منها التبوُّل فيه أو سقوط قطرة دم.
الناس هنا يتحدّثون كثيراً عن الاحلام. إنهم يقضون الليل والنهار في الحديث عنها. يبدو أن المدن الصغيرة أكثر سوريالية من غيرها، لكني كنت أواجه مشكلة معقّدة قليلاً، وهي أنني في هذه المدينة لم أحظ بأحلام عادية. كنتُ أرى كل ليلة كابوساً مخيفاً، ولم تكن أمّي تملك كتاباً للكوابيس. كانت فقط تهدّئُ من روعي قائلة: "لا تقلق، إنه مجرّد كابوس، عليك العودة إلى النوم".
أعرف أنه كابوس، لكنّني كنت أبحث عن تفسير مناسب له، كابوس واحد يتكرّر كل ليلة، يبدو كأنه حلم بريء، لكنه في الحقيقة كابوس بشع.
جدّتي كانت قد تُوفّيت قبل عدة أيام، وكل من في البيت كان يتوسّل الرب بطريقته للقاء الجدّة في الحلم. عمّي، مثلاً، كان يصلّي ويدعو الله بأن يراها، وعمّتي تضع ثوبها القديم كوسادة للنوم حتى تزيد من احتمالية لقائها في المنام، إلا أن الجدّة ولمدّة طويلة لم تزر أحداً منهم. كانت تزورني فقط.
كنت أعرف في الحلم أنني في حلم، وأن جدتي قد توفيت، لكنني أشاهدها الآن في الغرفة الضيقة القديمة، هناك تقف لتحمل قطعة من قماش البازة وتمسح على البوفية الخشبية وتنظر إلي من خلف نظارتها القديمة، وقد عصّبت رأسها بقماش أسود، تنفلت من تحته خصلة من الشيب، تملك حاجبين خشنين وجبهة متعرّجة. مظهرها أفزعني، كأنها الساحرة في قصة الأميرة والأقزام السبعة. تنظر إليَّ بخبث، وأحياناً كانت تضحك بطريقة درامية متقطّعة، كأنها تتعمّد إخافتي، وكم كان ثقيلاً عليّ تحمّل ذلك، فكنت أحاول الهروب منها بالركض باتجاه باب الدار، إلّا أنني لا أستطيع الركض في الحلم.
خطواتي بطيئة وجسمي ثقيل. أشعر بأنها تقترب منّي وتكاد تلامسني، دون أن تخطو نحوي، تتحرّك باتجاهي كصورة ثابتة تتحرّك في الهواء. حينها أصحو بفزع شديد، تهرع أمّي إليّ ويلحق بها أبي لضمّي، فأخبرهم أنه كابوس، فيسأل والدي: "ما الذي شاهدته بالضبط؟". أُخبره أنها كانت جدّتي، فيقول وقد تملّكه الغضب: "أنت ولد عاق. كيف تعتبر رؤية أمّي كابوساً؟"، فأخبره أنني كنت أعلم بموتها في الحلم وأشاهدها حية هناك.
أسأله: "ألا يخيفك ذلك؟"، فيجيب بأنه يتمنّى لو يلتقيها مجدّداً للحظة واحدة، حتى لو كان ذلك في الحلم.
ومع تكرار ذلك الكابوس، راح والدي يوبّخني بقسوة. وفي النهاية، اضطررت لأن أكذب عليهم وأخبرهم عن كابوس آخر، وأحياناً كنتُ اخفي فزعي المعتاد، كي لا يلاحظوا ذلك.
استمر معي الكابوس إلى هذه اللحظة، مع إضافة جديدة، فبعد أن تُوفّي والدي، صرتُ أشاهد كابوساً مضاعفاً. أبي وجدّتي يمسكان قطعة من قماش البازة ويمسحان ببطء على خشب البوفية وينظران إليَّ بعيون جاحظة مخيفة وابتسامة باردة، حينها أحاول الركض، وكالعادة أخفق في إنقاذ نفسي، لكنّني حاولت هذه المرة أن أركض إلى الخلف. صحيح أنني نجحت في الحركة، لكنها كانت بطيئةً جدّاً، وهما ما زالا يخطوان نحوي محاولَين الاقتراب منّي. أختنق وأتعرّق من شدّة الخوف، مع صراخ شديد أحياناً.
ومرّةً صحوت على صراخ ابني، فركضتُ نحوه واحتضنته. وقبل أن أسأله، قال إنه شاهد جدّه في الحلم،
ثم سألني: "أين ذهب جدّو؟".
أجبت: "إلى الجنة".
قال: "هل الجنة هي تلك الغرفة الضيّقة الصفراء؟".
قلت: "نعم هي تلك".
* كاتب من العراق