كم أكره اللامبالين. إنني أردّد دائماً ما قاله فريدرش هيبل "أن أحيا هو أن يكون لي انتماء". لا يوجد في هذا العالم إلا "الإنسان" أو الغرباء عن الحضارة. ومن هو حيّ بحق لا يمكن إلا أن يكون مواطناً، أي جزءاً من الوطن وجزءاً من الحضارة البشرية، وبالتالي ينبغي أن يكون صاحب انتماء. اللامبالاة هي فقدان الإرادة، هي الكسل والتطفّل والجبن. إنها كل هذه العناصر المضادة للحياة الحقيقية. ومن أجل ذلك أنا أكره اللامبالين.
اللامبالاة هي اللَحمة الميّتة في جسد التاريخ. إنها الوزن الزائد الذي يعطل الابتكار. إنها بركة العطالة والعطب حيث يغرق غالباً كل الحماس المتدفق. إنها ذلك الحوض الذي يحيط بالمدينة القديمة ويحميها أكثر من أسوارها ومن صدور محاربيها، لأنها تبتلع في دوّاماتها المميتة كل وافد جديد، وهي من بعيد تقذف في القلوب تثبيط العزائم وتقنع العقول بترك الجدارة والبطولة.
اللامبالاة بعكس ما تبدو نشيطة كثيراً في الواقع، وهي تشتغل على الإنسان بكثير من المواظبة. صحيح أنها تفعل ذلك بطريقة سلبية، إلا أن هذه السلبية تمكنها من التخفي عن عيون المنتبهين فتتقدم بيسر أكبر.
اللامبالاة هي الفناء، لأنها الوعد الذي لا يمكننا بحال تصديقه والتعويل عليه. إنها السوسة غير المرئية التي تنخر برامجنا ومخططاتنا، وحين نستدعيها تسقط بين أيدينا غباراً. إنها المضاد الحيوي للذكاء والتخطيط والتكتيك، وهي بدون عضلات قادرة على خنق هؤلاء الجبابرة.
إنني كثيراً ما ألاحظ أن الفعل البطولي حين يُخفق لا يعرف أسباب إخفاقه. إنه لا يرى المتغيّبين عن المعركة، وأولئك هم أتباع اللامبالاة. إن ما يحدث في التاريخ لم يكن ليحدث بذلك الشكل إلا لأن جزءاً من البشر يتخلى عن إرادته، يترك الأمور تحصل دون موقف منه أو قرار. إن هذا الجزء من البشر هو الذي يراكم العُقد والحفر في طريق التقدّم، هذا الطريق الذي لا تفتحه غير الثورة.
***
إن التاريخ البشري، وهو صراع بين الحياة والموت، يبدو فيه هذا الأخير مهيمناً على مجرياته. وما هذا الموت وحضارته سوى المظهر المتجلي للامبالاة المتخفية، وهو تجسيد الغياب.
كل الوقائع تنضج في الظل، لا يسهر عليها أي مسيطر، وهي تنسج حياتنا المشتركة. في هذا المسار الزمني، تكون العامة غافلة تماماً وهي غافلة لأنها ببساطة لا تأبه بما يدور. هكذا يحاك في كل مرة مصير الناس، تقوده الرؤى الضيقة والأهداف الآنية، تقوده الأطماع والرغبات الشخصية، تقوده الأقليات الفاعلة والقوية، بينما تبقى الكتلة البشرية الكبيرة جاهلة بما يدور لأنها لا تأبه لما يدور.
غير أن كل هذه الوقائع التي تمخّض عنها التاريخ تفضي إلى أمر ما، حين تكتمل القماشة التي نسجت في الظل. وقتها تبدو للجميع وتتمظهر حضارة الموت حاصدة كل ما يقف في طريقها.
يقول البعض بأن التاريخ ليس سوى مجموعة من الظواهر الطبيعية كالزلازل والبراكين أو أنه مجموعة انفجارات متتالية يذهب ضحيتها سواء من أراد اقتحام المعركة أو لم يرد، سواء من كان يعلم بها أو لم يعلم، سواء من كان جزءاً منها أو من كان لا مبالياً.
ووقت الحساب التاريخي، يقف هذا الأخير منفعلاً يريد أن يسحب نفسه من النتائج الكارثية، إنه ينزع للظهور بمظهر البريء الذي لم يكن يريد شيئاً من هذه المعركة وبالتالي يريد أن يقول "أنا لست مسؤولاً".
معظم هؤلاء يتباكون كي يثيروا الشفقة إذ يعتبرون ذلك وسيلة استمرار. لا أحد منهم تساءل "ماذا لو قمت بواجبي؟" أو"ماذا لو قدّمت موقفي ورؤيتي؟"من لا يطرح هذه الأسئلة لن يعرف قيمة موقفه.. إن تباكيهم وتنصّلهم يدلّ على أنهم لا يحسّون بالذنب، ذنب وقوفهم لا مبالين. وذنب التشكك وشفافيتهم المخزية، وما هي إلا قرينة عدم وجودهم أصلاً.
إن غيابهم من المعركة يوازيه غيابهم من المسؤولية بعدها. إن الغياب هو غايتهم الأصيلة، عدم الوجود هو مطمحهم. يستندون على حلول ومخارج يبتكرونها بمكر، وغالباً ما تكون حلولهم تلك سليلة بحث ثقافي يغيب عنه كل توهّج أخلاقي.
***
إنني أكره اللامبالين لأنهم يقفون ضد الطبيعة، يقفون ضد الحقوق والواجبات التي منحتهم إياها الحياة منذ أن دخلوها وتمنحهم إياها في كل يوم يعيشونه. لم يعد ممكناً أن أكون رفيقاً بهؤلاء، أو أن أبذر شفقتي على مكرهم أو أشاركهم دموعي.
أنا لديّ انتماء.. أنا أحيا.. أنا أشعر أنني أبني المدينة الجديدة، تلك المدينة التي لا تقوم على استغلال البعض للبعض ولا تغمس عروقها في حضارة الموت وإنما في نتاج ذكاء مواطنيها.أنا أحيى، أنا أنتمي. ولهذا أحتقر من ليس له انتماء. أنا أكره اللا مبالين.
ترجمة عن الفرنسية: شوقي بن حسن