كل تلك الاحتمالات

18 مارس 2016

لوحة للفنان جون بنكر (Getty)

+ الخط -
دلفت إلى المقهى صباحاً، كما صرت أفعل في الآونة الأخيرة، كلما أتيح لي ذلك. أتجهم، وألبس ثياباً قاتمةً تضفي علي هيبةً وغموضاً، غير أن الصورة النمطية للمثقف المكترث بقضايا الوجود لا تكتمل تماماً، كوني لا أنفث السجائر بنزق، منذ أن تاب علي الله من هذا الداء العضال. عليّ الاعتراف بأني أحاول الاقتداء بالمثقفين والفنانين البوهميين بشراسة، لحقوق الذين يلوذون بالمقاهي، متأملين، من دون طائل، في هذه الحياة وأحزانها الكثيرة، وكذلك هي محاولة مني للخروج عن روتين البيت وشاشة التلفزيون التي تبث برامج صباحية، لا تخلو من نصائح طبية، ووصفات أطعمةٍ، وطرق العناية بالبشرة الجافة، وتستضيف مسؤولين بشوارب قبيحة مصبوغة بالأسود الداكن. أتخلص من صوت فرقعة الصحون عند الجارة النشيطة المقبلة على الحياة بشكلٍ مبالغ فيه، كثيراً ما خطر ببالي أن أسألها عن مبرّر هذه البهجة، والصخب والنشاط المفرط من (صباحية ربنا) كل يوم أفتح الباب بحذرٍ شديد، أحمل حذائي ذا الكعب العالي، أمشي بخفة لصٍّ نجح في عملية سطو شاقة، غير أنها تضبطني في كل مرة، وقبل أن يأتي المصعد المتآمر المتثاقل البطيء، تكون قد أطلت علي بكامل ثقل ظلها، مبتسمةً بصفاقةٍ، هاتفةً بفرحٍ قاتلٍ ولحن متراقص: صباحوووو. فأدرك على الفور أن نهاري انقلب فوراً إلى كحلي غامق.
ابتسم صاحب المقهى، وحيّاني بانحناءة خفيفة. شكرت الله، لأنه لا يخاطبني بكلمة (خالتو) كما يفعل بعض أقرانه بسماجة (خالتو بمناسبة شو؟) هل أنا من بقية أهلك مثلاً، لكي ترفع الكلفة، وتذكّرني بعمري المتقدم نسبياً؟ ألا تستطيع أن تقول مدام أو سيدة أو بطيخ أصفر. لأ، صديقي صاحب المقهى مختلف، هو قليل الكلام، يحترم الخصوصية، أنيق ببساطةٍ. يبدو قادماً لتوه من النادي، تعجبني اللمسات الذكية في مقهاه الصغير، ما ينسف كلياً صورة الشخصية التقليدية في الأفلام المصرية القديمة للقهوجي الجدع ابن البلد، زعيم الحارة الذي يرهب جانبه الجميع، وقد جسّده فريد شوقي باقتدارٍ كبير من حيث الكرش الهائل، والشارب الكث والمظهر الشعبي الرث، جالساً وراء مكتب مهلهل صغير، خلفه جدار تتصدّره صورة لجده الراحل وصوت أم كلثوم يردّد في الأرجاء "الأوله في الغرام"، فيما يأخذ المعلم نفساً عميقاً من الأرجيلة المعمرة بالتنباك، مؤنباً، بصوته الأجش، صبي القهوة الكسول الذي لا يجيد خدمة الزبائن الجالسين ببلادة على المقاعد الخشبية المتهالكة، إثر استخدامها المتكرّر في الخناقات. وحين تظهر تحية كاريوكا بجسدها المكتنز، فتتثني بغنج ودلال، تشرق ملامحه، ويشرع في الغزل المباح، فيما تنطلق الضحكة الصاخبة التي تشي بالقبول، ويا أرض اشتدي.
ينبغي أن أكفّ عن هذه العادة السيئة، أقصد الاستغراق في التداعيات التي لا تفضي إلى نتيجةٍ، لأركز أكثر في اللحظة الراهنة. صاحب المقهى الذي أرتاده في أوائل الثلاثينيات، وقور ولبق، يبتسم للزبائن برصانةٍ من خلف شاشة اللاب توب، لا يتواصل مع أي منهم سوى بالحد الأدنى، غير أن ثمة تواطؤاً جميلاً نشأ بيننا، يجعله يهرع كلما رآني، مبادراً إلى تغييرٍ، إلى صوت فيروز حصراً. هذه المرة، أشرت إليه بالتوقف، لأن صوت الراحل محمد غازي كان يردّد بشجنٍ لا مثيل له أغنية "لا زرعلك بستان ورود". ابتسم موافقاً. بدا لي سعيداً على نحو استثنائي، لعله كان يشاركني فرحتي بنبأ انسحاب الجيش الروسي غير المظفر من سورية، من المؤكد أنه يتساءل بغبطةٍ عن موقف المطبلين من جماعة (الله محيي الجيش الروسي)، باعتباره المخلص والمنقذ لطاغية دمشق، في نزعه الأخير، وهم الذين يدينون، في الوقت نفسه، كل أشكال التدخل الأجنبي!
ربما كان يختبر لحظة انتصار محلية صغيرة، لأن مسؤولاً من عيار ثقيل، تمت إقالته بسبب تصريحاتٍ رعناء. لعل مبعث بهجة الفتى أبسط من ذلك بكثير، كأن تكون ابتسامة عابرة منحته إياها صبية حسناء، عند إشارة المرور. تؤكد كل تلك الاحتمالات، مجتمعة ومنفردة، ببساطة أكثر، أن الربيع أتانا حقاً، هذه المرّة، ضاحكاً طلقاً.
AD06A645-8A0A-4B42-9292-5FC44B5D51C6
بسمة النسور

كاتبة أردنية، تحمل الليسانس في الحقوق، صدر لها ست مجموعات قصصية، وكتبت نصين مسرحيين. تكتب في الصحافة العربية منذ 1990، وتشغل موقع رئيسة تحرير مجلة "تايكي" المتخصصة بالإبداع النسوي.