29 يونيو 2024
كل هذا الإرهاب وأولويات الغرب
تثير الطريقة التي رسخت بها التنظيمات الإرهابية وجودها في المنطقة العربية، خصوصاً في العراق وسورية وليبيا، أكثر من سؤال بشأن سر هذا الترسخ والتمدد الجغرافي الذي يحدث، وفق متوالية هندسية بلغة الرياضيات، وكأن الأرض خلاء، والجيوش دمى، والمؤسسات مجسّمات من الورق المقوى. ولا يمكن للملاحظ سوى أن يندهش أمام سهولة انقضاض ما يسمى تنظيم الدولة (داعش) على مساحات شاسعة تعادل حجم دول بكاملها، مثل فرنسا، لتطبق فيها شريعتها وتنصب دواوينها، وتضع لبنات البديل المتطرف المطلق، بما في ذلك سك عملة خاصة بالتنظيم.
هل غياب الديمقراطية وانتشار الفساد والمظالم والحيف الاقتصادي والتهميش الاجتماعي والإقصاء السياسي والحروب الأهلية والمذهبية والدينية، وتآكل المؤسسات وانهيار الاقتصادات وإنهاك الجيوش وإضعاف الدول وصراع المصالح وتضاربها بين القوى الكبرى والمركزية، وسعي هذه القوى إلى هندسة إطار جيو-سياسي وجيو-ديني جديدين في المنطقة هو ما جعل التنظيمات الإرهابية تتمكن بهذه السرعة، وهذا اليسر، من تثبيت مشروعها وتسويقه بكل الوسائل والسبل؟
لعبت كل هذه الأسباب دوراً أساسياً في التمكين للتنظيمات الإرهابية، وهيأت لها التربة الخصبة والبيئة الملائمة، لتصول وتجول وتستقطب وتسيطر وترهب، وتطرح نفسها بديلاً مثالياً ومتعالياً ونقيضا لكل البدائل التي طرحت منذ عقود، والتي لم تتمكن من إنتاج أنظمة ديمقراطية تستند إلى الشرعية الشعبية، ولم تبلور حلولا للأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والهوياتية، فانتشار الفساد واستحكام الاستبداد وشعور المواطنين بالغبن والحيف، وحرمان مختلف التيارات السياسية والفكرية السائدة داخل المجتمعات العربية من التعبير عن آرائها وتصوراتها والدفاع عن مشروعها السياسي والاجتماعي بالطرق القانونية، أحدث هذا كله حالة استياء عميقة وغير مسبوقة، ودفع تلقائيا فئات واسعة من المواطنين إلى المطالبة بالتغيير والإصلاحات، بما يضمن نسج علاقات جديدة وعقلانية بين مؤسسات الدولة والمجتمع، غير أن عناد أنظمة عربية وتصلبها وجنونها، وقد ألفت منطق القطيع والتمجيد والإجماع الشعبي بنسبة 99%، والاطمئنان إلى دوام سيادة سلطتها وتسلطها إلى ما لا نهاية، كان بمثابة شرارة أشعلت هذه النيران التي ما زالت ملتهبة، ويصعب إطفاؤها. حيث لم يعد الأمر مقتصراً على مطلب إسقاط الأنظمة التي لم تعد صالحة للاستمرار في سدة الحكم وإنهاء مدة صلاحيتها، بل تعدّاها لنجد أنفسنا أم
ام فصل مدمر من الحروب المذهبية والدينية، بحمولة طائفية فيما يشبه استعادة تراجيدية مجنونة لتاريخٍ ملطخ بالدماء ومؤثث بكل أسباب الكراهية والتفسخ والتمزق. وعندما يُستعاد التاريخ في شقه الدموي المجنون والهائج ليضطلع بوظيفة غير تاريخية، عبر تمزيق المجتمعات، وتشتيت شملها ووحدتها وتفكيك قوتها وتماسكها وانسجامها، وإيجاد الشروط المثالية لاندلاع حرب طاحنة بين شتى المذاهب الدينية والتعبيرات الثقافية والفكرية واللغوية، تقل، أو على الأصح تنعدم، فرص بناء إجراءات الثقة، وتختلط الأمور إلى درجة يتحول معها الجلاد إلى ضحية، والعكس صحيح. وتبعاً لهذا المنحى، وجدت التنظيمات الإرهابية الفرصة النادرة التي لا يمكن إهدارها، لتثبت أقدامها وتوطد دعائم مشروعها، مستغلة، من أجل ذلك، كل التناقضات والحزازات والنعرات والصراعات، وتصفية الحسابات وتسوية الديون التاريخية بين هذا الطرف أو ذاك.
كما أن صراع المصالح وتضاربها بين القوى الكبرى والمركزية في العالم، وسعي هذه القوى إلى هندسة إطار جيو- سياسي جديد في المنطقة، أفرز حالة من الغموض والشك، وطرح علامات استفهام كثيرة حول جدية الفاعل الدولي الرئيسي ومصداقيته، بخصوص مواجهة الإرهاب، وقطع دابر الاستبداد، بالوقوف إلى جانب قوى التغيير والإصلاح، ودعم حركة الشارع العارمة، والمطالبة بإقامة دولة المؤسسات والقوانين. ولم يعد خافياً اتساع الخلاف بين الولايات المتحدة الأميركية وروسيا حيال مآل الأوضاع في سورية، خصوصاً مع احتباس الرؤى وانتشار غيوم كثيفة في سماء المنطقة، جرّاء عدم الاتفاق حول ترتيب الأولويات وتحديد منهجية التعامل مع النظام السوري، والأفق الذي سيرسم له، علماً أن هذا النظام يستفيد من استغلال ورقة التنظيمات الإرهابية التي باتت خطراً كبيراً على الأمن القومي لدول معنية بالأزمة السورية، وهو ما جعل بعض هذه الدول تركّز، في استراتيجياتها وتكتيكاتها الحربية والدبلوماسية، على محاربة "داعش" أولاً. وداخل هذا الإطار، تتقاطع مواقف ووجهات نظر دول تعتبر أن الخطر الحقيقي والفعلي يتمثل في التنظيمات الإرهابية التي باتت تهدد جنوب أوروبا، بسبب تغلغل هذه التنظيمات في ليبيا، واستيلاء "داعش" على مناطق أحكمت عليها سلطتها وسيطرتها، خصوصاً في ظل صعوبة التوصل إلى حل متفق عليه من جميع الأطراف الليبية، على الرغم من جهود الأمم المتحدة التي أشرفت على جلسات حوارية ماراثونية ومرهقة ومتفرقة، وبذلت مساعي حثيثة لإقناع مكونات الأزمة الليبية بضرورة التوصل إلى تسوية سلمية، تضمن وحدة البلاد، وتعيد إلى الدولة هيبتها، وإلى المؤسسات سلطتها.
وتشكّل موجات اللاجئين السوريين والعراقيين، ومن مناطق عربية أخرى، والذين يتدفقون بالآلاف على دول أوروبية، تحدياً كبيراً بالنسبة للحكومات الأوروبية على المستويات كافة، فبصرف النظر عن الجوانب الإنسانية والأخلاقية والحقوقية والمادية التي ترعاها تشريعاتٌ أوروبية، فإن هذه الحكومات لا تخفي خشيتها من تسلل إرهابيين محتملين ضمن حشود اللاجئين الباحثين عن ملاذاتٍ في القارة العجوز، بعيداً عن الحروب والتقتيل اليومي وحمامات الدماء الناتجة المنتشرة في أكثر من دولة عربية. ولا تستبعد عواصم أوروبية عدة احتمال تشكل خلايا نائمة فوق أراضيها، ما سيعرّض أمنها لخطر مدمر في حال حدوث ذلك. ووجود مثل هذا التوجس هو ما يحفّز دولاً أوروبية، في مقدمتها فرنسا وألمانيا وبريطانيا، على استنفار كل الجهود، بغية التصدي لداعش التي لم تتمكن الضربات الجوية لتحالف دولي عريض من كبح جماح استراتيجيتها، ما يطرح تعديلات جوهرية في طريقة مواجهة التنظيمات الإرهابية، بما في ذلك التعاطي بأفق سياسي وحقوقي وإنساني جدي وواقعي مع الأزمة السورية. وما يمكن أن يشكل حالة من التلكؤ والعجز والتردد هو إعادة إنتاج القوى الكبرى التجربتين، العراقية والليبية، في سورية، ما يرشح الأزمة لمزيد من الاستفحال والتعقيد، عبر الاكتفاء بمناوشة داعش بضربات جوية غير مضمونة النتائج، أو من خلال الانتصار لاختيار بقاء النظام السوري فترة انتقالية، على الرغم من تحمله مسؤولية جنائية وأخلاقية وسياسية في مأساة الشعب السوري الماثلة.
إن توفر الإرادة مسألة أساسية لدى الدول المعنية بالأزمة السورية، وهذا ما دفع الأمين العام للأمم المتحدة، بان كي مون، في افتتاح مناقشات الدورة السبعين للجمعية العامة للأمم المتحدة إلى القول إن "هناك خمسة دول على وجه الخصوص، تملك الحل، الاتحاد الروسي، والولايات المتحدة، والسعودية، وإيران، وتركيا. ولكن، طالما أنه لا يوجد جانب يريد أن يصل إلى حل وسط مع الجانب الآخر، فسيكون من غير المجدي أن نتوقع تغييراً على الأرض".
هل غياب الديمقراطية وانتشار الفساد والمظالم والحيف الاقتصادي والتهميش الاجتماعي والإقصاء السياسي والحروب الأهلية والمذهبية والدينية، وتآكل المؤسسات وانهيار الاقتصادات وإنهاك الجيوش وإضعاف الدول وصراع المصالح وتضاربها بين القوى الكبرى والمركزية، وسعي هذه القوى إلى هندسة إطار جيو-سياسي وجيو-ديني جديدين في المنطقة هو ما جعل التنظيمات الإرهابية تتمكن بهذه السرعة، وهذا اليسر، من تثبيت مشروعها وتسويقه بكل الوسائل والسبل؟
لعبت كل هذه الأسباب دوراً أساسياً في التمكين للتنظيمات الإرهابية، وهيأت لها التربة الخصبة والبيئة الملائمة، لتصول وتجول وتستقطب وتسيطر وترهب، وتطرح نفسها بديلاً مثالياً ومتعالياً ونقيضا لكل البدائل التي طرحت منذ عقود، والتي لم تتمكن من إنتاج أنظمة ديمقراطية تستند إلى الشرعية الشعبية، ولم تبلور حلولا للأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والهوياتية، فانتشار الفساد واستحكام الاستبداد وشعور المواطنين بالغبن والحيف، وحرمان مختلف التيارات السياسية والفكرية السائدة داخل المجتمعات العربية من التعبير عن آرائها وتصوراتها والدفاع عن مشروعها السياسي والاجتماعي بالطرق القانونية، أحدث هذا كله حالة استياء عميقة وغير مسبوقة، ودفع تلقائيا فئات واسعة من المواطنين إلى المطالبة بالتغيير والإصلاحات، بما يضمن نسج علاقات جديدة وعقلانية بين مؤسسات الدولة والمجتمع، غير أن عناد أنظمة عربية وتصلبها وجنونها، وقد ألفت منطق القطيع والتمجيد والإجماع الشعبي بنسبة 99%، والاطمئنان إلى دوام سيادة سلطتها وتسلطها إلى ما لا نهاية، كان بمثابة شرارة أشعلت هذه النيران التي ما زالت ملتهبة، ويصعب إطفاؤها. حيث لم يعد الأمر مقتصراً على مطلب إسقاط الأنظمة التي لم تعد صالحة للاستمرار في سدة الحكم وإنهاء مدة صلاحيتها، بل تعدّاها لنجد أنفسنا أم
كما أن صراع المصالح وتضاربها بين القوى الكبرى والمركزية في العالم، وسعي هذه القوى إلى هندسة إطار جيو- سياسي جديد في المنطقة، أفرز حالة من الغموض والشك، وطرح علامات استفهام كثيرة حول جدية الفاعل الدولي الرئيسي ومصداقيته، بخصوص مواجهة الإرهاب، وقطع دابر الاستبداد، بالوقوف إلى جانب قوى التغيير والإصلاح، ودعم حركة الشارع العارمة، والمطالبة بإقامة دولة المؤسسات والقوانين. ولم يعد خافياً اتساع الخلاف بين الولايات المتحدة الأميركية وروسيا حيال مآل الأوضاع في سورية، خصوصاً مع احتباس الرؤى وانتشار غيوم كثيفة في سماء المنطقة، جرّاء عدم الاتفاق حول ترتيب الأولويات وتحديد منهجية التعامل مع النظام السوري، والأفق الذي سيرسم له، علماً أن هذا النظام يستفيد من استغلال ورقة التنظيمات الإرهابية التي باتت خطراً كبيراً على الأمن القومي لدول معنية بالأزمة السورية، وهو ما جعل بعض هذه الدول تركّز، في استراتيجياتها وتكتيكاتها الحربية والدبلوماسية، على محاربة "داعش" أولاً. وداخل هذا الإطار، تتقاطع مواقف ووجهات نظر دول تعتبر أن الخطر الحقيقي والفعلي يتمثل في التنظيمات الإرهابية التي باتت تهدد جنوب أوروبا، بسبب تغلغل هذه التنظيمات في ليبيا، واستيلاء "داعش" على مناطق أحكمت عليها سلطتها وسيطرتها، خصوصاً في ظل صعوبة التوصل إلى حل متفق عليه من جميع الأطراف الليبية، على الرغم من جهود الأمم المتحدة التي أشرفت على جلسات حوارية ماراثونية ومرهقة ومتفرقة، وبذلت مساعي حثيثة لإقناع مكونات الأزمة الليبية بضرورة التوصل إلى تسوية سلمية، تضمن وحدة البلاد، وتعيد إلى الدولة هيبتها، وإلى المؤسسات سلطتها.
وتشكّل موجات اللاجئين السوريين والعراقيين، ومن مناطق عربية أخرى، والذين يتدفقون بالآلاف على دول أوروبية، تحدياً كبيراً بالنسبة للحكومات الأوروبية على المستويات كافة، فبصرف النظر عن الجوانب الإنسانية والأخلاقية والحقوقية والمادية التي ترعاها تشريعاتٌ أوروبية، فإن هذه الحكومات لا تخفي خشيتها من تسلل إرهابيين محتملين ضمن حشود اللاجئين الباحثين عن ملاذاتٍ في القارة العجوز، بعيداً عن الحروب والتقتيل اليومي وحمامات الدماء الناتجة المنتشرة في أكثر من دولة عربية. ولا تستبعد عواصم أوروبية عدة احتمال تشكل خلايا نائمة فوق أراضيها، ما سيعرّض أمنها لخطر مدمر في حال حدوث ذلك. ووجود مثل هذا التوجس هو ما يحفّز دولاً أوروبية، في مقدمتها فرنسا وألمانيا وبريطانيا، على استنفار كل الجهود، بغية التصدي لداعش التي لم تتمكن الضربات الجوية لتحالف دولي عريض من كبح جماح استراتيجيتها، ما يطرح تعديلات جوهرية في طريقة مواجهة التنظيمات الإرهابية، بما في ذلك التعاطي بأفق سياسي وحقوقي وإنساني جدي وواقعي مع الأزمة السورية. وما يمكن أن يشكل حالة من التلكؤ والعجز والتردد هو إعادة إنتاج القوى الكبرى التجربتين، العراقية والليبية، في سورية، ما يرشح الأزمة لمزيد من الاستفحال والتعقيد، عبر الاكتفاء بمناوشة داعش بضربات جوية غير مضمونة النتائج، أو من خلال الانتصار لاختيار بقاء النظام السوري فترة انتقالية، على الرغم من تحمله مسؤولية جنائية وأخلاقية وسياسية في مأساة الشعب السوري الماثلة.
إن توفر الإرادة مسألة أساسية لدى الدول المعنية بالأزمة السورية، وهذا ما دفع الأمين العام للأمم المتحدة، بان كي مون، في افتتاح مناقشات الدورة السبعين للجمعية العامة للأمم المتحدة إلى القول إن "هناك خمسة دول على وجه الخصوص، تملك الحل، الاتحاد الروسي، والولايات المتحدة، والسعودية، وإيران، وتركيا. ولكن، طالما أنه لا يوجد جانب يريد أن يصل إلى حل وسط مع الجانب الآخر، فسيكون من غير المجدي أن نتوقع تغييراً على الأرض".