علبةُ البيسكويت
إلى أمجد ناصر
عُمرُها في بيْتي
خمسَةَ عَشَرَ عاماً
رَحَلَتْ مَعي مرّتينْ
وتستَعدُّ لرحيلٍ ثالثٍ
شَهِدتْ على كلّ فُتوحاتي
وهزائمي النسائيةِ
في الطابقِ الثاني
بعمارةٍ
في شارع Pierre Paul Riquet
بتولوزَ
وتُطِلُّ مَعي
على سباقِ الأحصنَة
في بيتي الجديد
وعلى قصائدِ آخرِ الليل
وقهْوتي الصباحيّة
وصُداعِ الرأسِ
الذي يَلي مباشرةً
عقْدَ الزواجِ...
لم تفهمْ واحدةٌ من تلكَ النساء
سببَ احتفاظي بعُلبة بيسكويتٍ فارغة
فأقول لهنّ مُشيراً إلى العُلْبةِ:
هذهِ ليستْ علبةً!
وأُقسمُ أنّها هديةٌ
من شاعرٍ يَعُدُّ نجومَ لُنْدُنَ
جاءَني بها في يومٍ مُشمسٍ
على متنِ قصائدَ من بَنَفْسجَ
ثمَّ أُترجِمُ لهُنَّ "العربة والحصان"1
كيْ يَقِسْنَ المسافةَ
بينَ الغليونِ وصورةِ الغليون
حَتّى صِرْنَ يَحلُمْنَ واحدةً بعدَ أُخرى
بإعدادِ بيسكويتٍ ألذَّ
قَبْلَ أنْ يَرْفعْنَ
واحدةً بعد أُخرى
باستياءٍ
الرايةَ البيضاءَ.
1 العربة والحصان: قصيدة لأمجد ناصر ضمن مجموعته الشعرية "منذ جلعاد كان يصعد الجبل"
■ ■ ■
هكذا عِشْتُ
عندما صَلبوا المسيحَ
كنتُ في أعلى شجرةٍ
أَصعَدُ إليها كلّ يومٍ
لأطمئنَّ على صغار الحمامْ
وحين أحرقوا الحلّاجَ
أو هكذا شُبِّهَ لي
كنتُ أَرعى خِرفانَ جَدّي
في جبال الريف
ومِنْها اُشاهدُ الأمازيغَ يرقُصونَ حولَ المواقدِ
بعدَ الغُروب
وأسمعُ الدقّ على طُبولٍ من وَبرِ الماعزِ
بامْ بَبَبامْ/ بامْ بَبَبامْ/ بامْ بَبَبامْ...
وعندما تمَّ تعيينُ الْيوطيِّ مُقيماً عامّاً على المغربِ الأقصى
كنتُ في ضواحي وهرانَ أُحْصي النجومَ
وأصنعُ طائراتٍ ورقيةً
لتهريبِ قصائدَ
في ذمّ السلاطين
ويومَ أعْدموا لوركا عند جبال غرناطةَ
كنت أقطعُ الوادي الكبير
لأبيتَ عندَ قشتاليّةٍ
تقول لي: أنا رُمّانةُ فيديريكو
وترقصُ الفلامنكو طوالَ الليل
وعندما شاهدَ المغاربةُ سُلطانَهمْ في القمرِ
كنتُ أبكي وحيداً في الظلمةِ
رافعاً سبّابتي نحوَ السماءِ وأهتفُ:
رحمتَكَ يا الله!
ارْفعْ نجومَكَ والشمسَ والقمرَ قليلاً إلى أعْلى
ولا تَسْتَعِنْ بالنّازا ولا بالأنبياء!
وحين أعلنوا في التلفزيون عن موتِ الحسن الثاني
كنتُ أمسحُ زجاجَ مَتْجَرٍ في باريسَ
لأشتري كُتباً وأقلاماً لإخْوتي
فقُلْتُ في ما يُشبهُ صرخةً مكتومةً
لزبونةٍ لا تفهمُ العربيةَ:
"ماتْ يا ربّكْ مااااااتْ".
■ ■ ■
Dolores
إلى معاذ جرودي
ألقاهُ حَزيناً
كُلَّ أُغُسْطُسَ
هوَ مِثْلي:
لا يشربُ كأساً
حتّى يتقيّأَ وطناً
(أعْني قِطعةَ أرضٍ فيها بَشَرٌ وكِلابٌ وثعابينُ)
هذا الصيفَ توارى
أبْصَرْتُهُ
عندَ تقاطُعِ ضَوءيْنِ يسيرُ
وخلفَهُ دولوريسَ
بعينيْها الواسعتيْنِ
تَعُدُّ خُطاهُ
هي مثلَهُ
شاردةٌ
حـَمـّالةُ آلامٍ
تبكي أحياناً
وتهيمُ
ولا تُشبِهُ في شيءٍ
أبْناءَ الكلبةِ.
■ ■ ■
أنتِ لا تَطبخين
أنتِ لا تَطبخين
أنتِ فقط تُراكمينَ أشياءَ فوْقَ النار
تُفرِغينَ المَعْدَنوسَ فوق الزبيبْ
والبهاراتِ جميعَها فوق لحمِ الدجاج
ولا تُقطّعينَ الباذنجانَ والجَزَرَ
إلى شَرائحَ
ولا الثومَ إلى حُبَيباتٍ
وتُسرعينَ إلى أفلامٍ مُدْبْلَجةٍ
قبلَ أنْ يمتدَّ الزيتُ ساخناً
في أَقاصي اللحمْ
أنتِ صراحةً لا تطبخينْ
الطبخُ قصيدةٌ
تَرْتَجُّ
أوّلُها أنْ تُصيبَكِ رعشةُ الرغبةِ القُصوى
فتبْحثينَ في قلقٍ
كَمُجرمةٍ
عنْ سكاكينَ
وفجأةً تَهدئينَ
وتُقشّرينَ بَصَلَةً
ثمّ تبكينَ على لحظاتِ العشقِ التي
ضيّعتِها
وأنتِ تُراهنينَ على
زَوْجٍ لا يُحبُّ الكُسكُسَ
وثانيها أنْ يكونَ وقْعُ النار
أخفَّ من وقْعِ قافيةٍ
على الإيقاع
وأناملُكِ الرشيقةْ
أَرَقَّ على الخُضارِ
مِنها على القيثارْ
وثالثُها أنْ تَشُدّي البياض
مثْل راقصةٍ
حوْلَ خصركِ
كيْ يَليقَ بكِ
أصْفَرُ الزعفرانْ
ورابعُها الأحاسيس:
أغمضي عينيكِ
ودعي اللسانَ يُحدِّدُ الباقي
قد يكونُ المِلحُ جاوَزَ حَدّهُ
والزنْجبيلُ أخَفَّ
منْ نكهةِ الكَمّونْ
وخامسُها أنْ تشعُري بالذنبْ
كُلّما غيضَ الماءُ
تحتَ نُعومةِ الفاصولْيا
كمُوَشَّحٍ سقطتْ من تحْتِهِ الأقفالُ
وسادسُها أنْ تفتحي الشبّاكْ
كيْ تُحلّقَ نكهةُ الطاجينِ بينَ عِمارتينْ
في مَمَرِّ هِلْسِنْكي
ويموتَ غيْظاً آكِلو المَقرونْ
وسابعُها الرِّفْقُ بي:
لا تُلِحّي أنْ أذوقَ
منْ طيّباتِ ما صنعَتْ يداكِ
وأنا أُلَبّي نِداءَ قصيدةٍ
نزلتْ عليّ
كسورةِ المائدةْ.
* شاعر مغربي مقيم في فرنسا