يأتي ذلك بالتزامن مع تسريبات تتحدث عن تغييرات كبيرة في ما يعرف بـ"أمنية الحشد"، وهو الجهاز الأمني الداخلي بهيئة "الحشد الشعبي"، المظلة الجامعة لـ67 مليشيا عراقية تشكّل أغلبها عقب اجتياح تنظيم "داعش" للأراضي العراقية عام 2014، ومن بينها نحو 30 فصيلاً مسلحاً يرتبط بإيران ويطلق عليها اصطلاحاً "الفصائل الولائية"، في إشارة إلى ارتباطها بمكتب المرشد الإيراني علي خامنئي.
وكشفت التسريبات عن أوامر بنقل قسم من عناصر "أمنية الحشد"، إلى مفاصل أخرى داخل مليشيا "الحشد" ذاتها، فضلاً عن إعفاءات وإعادة لمنتسبين في المليشيا، إلى فصائلهم السابقة، بعدما كان تمّ استقدامهم لـ"أمنية الحشد"، كتكليف أو ما يعرف في العراق بـ"استخدام"، وهم المُنتسبون إلى وزارات أو دوائر وتمّ استخدامهم مؤقتاً في "أمنية الحشد"، الجهاز الذي نسب إليه أخيراً التورط بعمليات قمع للمتظاهرين في بغداد والنجف والبصرة على وجه التحديد.
وفي إطار فريق التحقيق الإيراني الذي انتقل من بغداد إلى دمشق مساء الاثنين، قال مسؤول عراقي رفيع لـ"العربي الجديد"، إنّ الإيرانيين يعملون بمفردهم على ملف التحقيق في موضوع اغتيال سليماني، وشراكة الجانبين العراقي والنظام السوري في هذا الشأن شكلية، إذ يقتصر دورهما على تسهيل مهمة المحققين واستقبالهم مع مرافقتهم خلال عملهم على القضية. وأكّد أنّ فرق التحقيق الإيرانية سُمح لها بالتدقيق بسجلات هاتفية تعود ليوم عملية الاغتيال لعدد غير قليل من الأشخاص، وأنها انتهت من استجواب موظفين بصفة مراقبين جويين بمطار بغداد، وآخرين في قسم الأمن وعاملين أرضيين في المطار كانوا متواجدين فيه عند نزول الطائرة التي أقلت سليماني للعراق.
وكشف المسؤول نفسه أنّ "هناك معتقلين عراقيين عديدين على ذمة القضية، لكن التحقيقات الأوسع تجري في دمشق، إذ يعتقد الفريق المحقق أنّ بيع سليماني للأميركيين جرى من خلال عملاء سوريين، والعراق مجرّد محطة تنفيذ لعملية الاغتيال"، على حد تعبيره.
ورداً على سؤال حول تقارير سابقة تحدّثت عن اعتقالات وتحقيق مع عاملين بشركة أجنحة "الشام للطيران"، المتداول عن أنها مملوكة لرامي مخلوف ابن خال رئيس النظام السوري بشار الأسد، قال المسؤول إنّ "الحديث عن اعتقالات لموظفين في شركة أجنحة الشام أو عاملين في مطار دمشق لا يعني شيئاً، مقابل من تمّ اعتقالهم فعلاً أو الذين يجري التحقيق معهم ممن لا علاقة لهم بالمطار، وهم أشخاص بعضهم غير سوريين كانوا على علم بزيارة سليماني القصيرة إلى دمشق وتوجهه إلى بغداد". وحول تعدّد فرق التحقيق الإيرانية، رجّح المسؤول ذاته أنها قد تكون لتعدّد المؤسسات الأمنية في إيران.
ويعتقد الإيرانيون أنّ شبكة تجسس لصالح الولايات المتحدة كانت وراء تزويد واشنطن بخطّ رحلة سليماني الأخيرة، ولا يستبعدون أن يكون أعضاؤها من داخل الحرس الثوري نفسه، وفقاً لتعليق على هامش الحديث أدلى به المسؤول العراقي ذاته، وقال إنّ متابعة تحركات سليماني تظهر أنها لم تكن جديدة من قبل الأميركيين، لكن قرار التخلّص منه هو الجديد.
في المقابل، قال عضو بارز في هيئة "الحشد الشعبي"، لـ"العربي الجديد"، إنّ "التحقيقات التي يجريها الإيرانيون وقائية لمعرفة شبكة التجسس الموجودة"، مقراً في الوقت نفسه بأنّ هذه التحقيقات "شملت عراقيين وسوريين، وعناصر بالحرس الثوري أيضاً، لكن لم يتم اعتقال جميع من جرى استجوابه أو التحقيق معه".
وشملت التحقيقات منذ الأيام الأولى لاغتيال قاسم سليماني، استجواب أول الأشخاص الذين كانوا وصلوا إلى السيارتين اللتين تمّ قصفهما، وهم من عناصر الشرطة الاتحادية الفوج الخامس، وكذلك أشخاص آخرين قاموا بالتقاط الصور الشهيرة الأولى لعملية الاغتيال والأشلاء المتناثرة، وبعض المقتنيات الخاصة الموجودة في مكان العملية. فضلاً عن مراجعة كاميرات المراقبة في مطار بغداد وخارجه ضمن مسافة الطريق بين بوابة المطار الجانبية التي خرج منها موكب سليماني، ولغاية ساحة عباس بن فرناس.
ونفذت الولايات المتحدة الأميركية عملية اغتيال سليماني والمهندس، في الثالث من يناير/كانون الثاني الماضي بواسطة طائرة مسيرة، استهدفت موكباً من سيارتين مدنيتين كانا ضمنه، بعد نزول سليماني في مطار بغداد قادماً من دمشق.
وعلى الرغم من سرية التحقيقات التي تجريها طهران في كل من بغداد ودمشق، حيث تكاد تكون شبه مستقلة عن السلطات العراقية، ونظام بشار الأسد، إلا أنّ نائباً في تحالف "الفتح"، الجناح السياسي لمليشيات "الحشد" في البرلمان العراقي، أعرب عن خشيته من ما وصفه بـ"محاولات إقصاء سياسي وتصفيات داخلية بسبب هذا الملف في العراق". وأكد في حديث مع "العربي الجديد"، أنّ "التحقيق يتوسّع وقد يطول لأشهر، كما أنّ تبعات سياسية قد تكون تحت غطائه كتسقيط بين المتنافسين سياسياً".
في السياق، قال الخبير في الشأن السياسي العراقي، غانم العابد، إنّ اللجان الإيرانية التي تتولى التحقيق تمثّل بعملها "انتهاكاً أيضاً لسيادة العراق، فلا دولة تسمح بمثل هكذا تحقيقات". وأضاف في حديث مع "العربي الجديد"، أنّ "ما يحدث مهزلة، وجريمة كبرى بحق العراق عندما تأتي دولة وتمارس أنشطة تحقيق وكأنما العراق لا توجد به أجهزة مختصة لتولي المهمة".
وتابع "سليماني قتل على أرض عراقية والقاتل معروف وهو تبنى العملية، وحتى لو ثبت أنّ عراقيين متعاونون ومتورطون، كيف تسمح الحكومة بقيام الإيرانيين باستجواب مواطنين عراقيين والتحقيق معهم واعتقالهم، إذ نسمع عن اعتقالات في هذا الخصوص".
وفي حفل تأبيني بمناسبة مرور 40 يوماً على اغتيال سليماني والمهندس، أقامته فصائل "الحشد الشعبي" في بغداد صباح أمس الثلاثاء، وصف رئيس "الحشد"، فالح الفياض في كلمة له، اغتيال نائبه وسليماني، بأنه "جريمة بحق سيادة العراق"، وبأنّ منفذيها "أشرار" و"تعوزهم الحكمة".
ومساء أول من أمس الاثنين، تحدّث زعيم مليشيا "بدر"، هادي العامري، في لقاء على قناة تلفزيونية عراقية، عن تفاصيل محادثة طلب فيها من المهندس إبلاغ سليماني بعدم القدوم للعراق، وذلك قبل اغتيالهما.
وقال العامري إنّ المهندس، أبلغه "بأنّ سليماني، سيصل إلى العراق يوم غد (قبل اغتياله قرب مطار بغداد)، فأجبته بإبلاغه عدم المجيء، وردّ المهندس بصعوبة إبلاغه بذلك، فأجبته: قول له الحجي العامري لا يرضى"، من دون أن يكشف عن سبب رفضه قدوم قائد فيلق القدس إلى العراق، وما إذا كان لديه علم مسبق بوجود مخطط لاستهدافه.
وأضاف العامري، أنه أبلغ المهندس بأنه إذا لم يبلغ سليماني بعدم المجيء فسيعتبر ذلك "خيانة"، في محاولة منه لإيصال المعلومة إلى سليماني، وتابع "كنت غاضباً منه وهذه القضية آلمتني كثيراً لوجود الأخوّة بيننا".