قد تكون الرحلة إلى كمبوديا ممتعة بزيارة الأماكن الأثرية والتاريخية، لا سيّما معابد "الأنكور"، تلك المملكة الغابرة في الشمال الغربي من "كمبوتشيا". بيد أن الهروب من المدن والتاريخ صوب الأرياف، متعة أخرى لا تعوّض في أزقة المدن والحواضر. بين مملكة الخمير الباقية على أرض كمبوديا، وبين قرى الفلاحين وسهولهم ومجتمعات الصيّادين، كانت معالم رحلتنا ترتسم. فبين روايات التاريخ ومظاهره، وبين حاضرنا هذا، يبدو شعب الخمير القاسم المشترك. هذه العرقية التي بَنَت مجتمعاتها، تحت وطأة الثيرافادا البوذية، تُظهر لنا كل المكنونات الحضارية في العمارة وتقنيات الزراعة وفي كافة أشكال المظاهر المجتمعية المعاشة. حتى إن للمطبخ الخميري نكهته الخاصة، التي تميّزه عن محيطه الهندو- صيني. الخمير يستحضرون الماضي لدرجة تخال أنه لا انقطاع في التاريخ.
أعياد الفلاحين الخاصّة
لا يمكن للوافد إلى إقليم "سيام ريب” الكمبودي، ألا يذهب في رحلة استكشاف الأرياف وجماعاتها. هذا الريف الذي يملكه أسياد الأرض، الذين يعتمرون قبّعات القش، يحتمون بها من دعابة الشمس السمجة. فلاحو حقول الأرزّ، أزهار اللوتس، أقدامهم في الماء وجباههم تحاكي السماء، مناجيةً المطر الموعود. يسطّر الفلاحون آيات يومية في حقولهم. للفلاحين الكمبوديين رزنامتهم الخاصة، فهم لا يبالون بمناسباتنا السعيدة. يمرّ عيد ميلاد المسيح هنا من دون أن يلتفت أحد. الأيام هنا لا تُحصى بمناسبات، يبدو فيها السيّاح، مجرد منبّهات قد ضُبِطت لترنّ بدون استئذان. العيد عند الفلاحين ساعتان: ساعة الحصاد وساعة التبادل. لريف كمبوديا، أيضاً، سحران: سحر الصباح، وسحر الليل. إن كان الصباح يكتسب ألوانه من طبيعة متنوّعة، فالليل يتلوَّن بإضاءة منبعثة من لهيب احتراق كومات القشّ المتراكمة أمام البيوت الخشبيّة. لكلّ كومة حكاية أو مسيرة، لا يعرفها سوى الفلاحين العائدين من حقولهم.
في الطريق إلى البحيرة العظيمة:
لا تنتهي طقوس الريف هنا، بل تبدأ في رحلةٍ باتجاه "البحيرة العظيمة”، أي "التونل ساب" في لغة الخمير. رحلة تمر بالطرقات الرملية المتشققة بين الحقول، حيث ترى الأطفال كحباتِ فطرٍ نبتت على جانبي الطريق، الذي يخترق سكينة بيوت الفلاحين وحرمتها. ربما يبدو الأطفال سعداء بمرورنا، يتعلَّمون بمرور السيّارات العد والسهو والخطأ. ربما يحلمون بهذه السرعة الزائدة لبقراتهم البيضاء التي يرعونها، يحلمون بأسر هذه السرعة الوافدة إليهم، ليمنحوها هديةً لأهلهم كي توفّر عليهم عناء الفلاحة في انتظار نضوج المواسم. نسير باتجاه قرية "كومبونغ بلاك" (Kompong Phluk) المتوارية خلف غابات المانغروف، على ضفاف بحيرة تونل ساب. نمرّ بقطعان الجواميس عبر الطريق الرملية الوحيدة حتى نصل إلى مكان لا يمكن للسيارة عبوره، فنستبدلها بمركب خشبي ليقلّنا عبر مجرى مائي متفرِّع من البحيرة. نصل إلى القرية التي تبدو لنا بيوتها من بعيد ذات أرجل طويلة. تبدو البيوت على الضفّة كامرأة خلف أذنها شجرة بوغنفيلية، وقد رفعت فستانها الصيفي الملوّن المزركش، كي لا تُبلِّل طرفه بماء البحيرة.
وقت القرويين لا يشبه وقت الآخرين:
ترتبط "كوبونغ بلاك” بالبحيرة العظيمة في علاقة لا فكاك منها. إنها ميناء من الأنياب كما يسمِّيها سكان القرية. الحياة على ضفة بحيرة بمساحة اثني عشر ألف مربع، أثناء المواسم الماطرة تمنح سكان كومبونغ ثروة سمكية يعتاشون منها. ويمنح فيضان البحيرة بيوتَ القرية شكلاً فريداً، بحيث ترتفع البيوت الخشبية على أعمدة يتراوح طولها بين السبعة والعشرة أمتار تقيها فيضان نهر الميكونغ. الحياة في القرية على قياس معدلات المياه. يعتاش مجتمع البحيرة بغالبيته على الصيد وتربية التماسيح في مزارع أُقيمت في ممرات مائية بين أشجار المناغروف. تلك الأشجار التي تنبت في الماء، وترتفع لتُشكِّل بيئةَ حاضنةّ للطيور المتنوعة مثل الببغاوات والطوقان والبجع. ناس كومبونغ البسطاء منخرطون في دورة حياة لا يخترقها سوى الزائرين منّا. نمشي في شارع القرية الوحيد ونحن تحت وطأة البهجة. إن ديناميكية هذا المجتمع الصغير المتواري خلف الغابة الاستوائية، والمواجه للبحيرة، تتجلّى بتجاهلنا. فلا وقت للوافدين إلا عند أطفال القرية. نتبادل والأطفال الدهشة، ونملأ أوقاتنا وفراغنا المتحصّل على العيش في الحواضر بصور الناس الطبيعيّين الذين لا يعرفون، أو لا تهمّهم، تعقيداتنا وبؤسنا. وقت ناس القرية لا يُشبه وقتنا. وقتهم فاكهة وأرزّ وسمك. أما تماثيل بوذا أمام الدار، فوقتٌ مستقطع لعوائل الفلاحين. بوذا الذهبي صندوق بريد أمنياتهم.
إقرأ أيضاً:لماذا جوازات السفر في العالم من أربعة ألوان فقط؟
الريف قصيدة الفلاح
تغرب شمس القرية في بحيرةٍ لا نهاية لها، حسب تعبير الناس هناك. يبدأ الناس بتوضيب قواربهم تحت منازلهم، وتفريغ حمولتها من السمك. يستحمّون عند تفرّعات المياه. ترتفع ألسنة النار من القش الذي يشعله السكان. الغروب في "كوبونغ" ليس غروباً رومنسياً بالمعنى المتداول للكلمة، كما أنه ليس غروباً جميلاً فحسب. هو غروب يستحق أكثر من التقاط صورة تذكارية. إنه غروب مرتبط بحياة الناس وحركتهم على ضفة البحيرة التي تضبط إيقاعهم اليومي. الشروق يأذن لهم ببدء رحلة الصيد، والغروب يدفعهم إلى مغادرة البحيرة باتجاه القرية. الشروق يدق جرس التعب، والغروب يعلن بدء استراحة الصيادين. يسمح الغروب للنسمات الباردة بأن تنسلّ من بين أشجار الغابات، لتداعب جباه الصيادين التي راكمت الملح عليها. الغروب وقت الأطفال، للصعود إلى منازلهم المرتفعة. الغروب ينزع عن بيوت القرية ألوانها المختلفة. نُطفئ كاميراتنا المزعجة، ونعود نحو الحاضرة. نعود وفي جعبتنا درس جديد: الريف بفلاحيه قصيدة مكتملة.
إقرأ أيضاً:اكتشفوا وسيلة السفر المناسبة
أعياد الفلاحين الخاصّة
لا يمكن للوافد إلى إقليم "سيام ريب” الكمبودي، ألا يذهب في رحلة استكشاف الأرياف وجماعاتها. هذا الريف الذي يملكه أسياد الأرض، الذين يعتمرون قبّعات القش، يحتمون بها من دعابة الشمس السمجة. فلاحو حقول الأرزّ، أزهار اللوتس، أقدامهم في الماء وجباههم تحاكي السماء، مناجيةً المطر الموعود. يسطّر الفلاحون آيات يومية في حقولهم. للفلاحين الكمبوديين رزنامتهم الخاصة، فهم لا يبالون بمناسباتنا السعيدة. يمرّ عيد ميلاد المسيح هنا من دون أن يلتفت أحد. الأيام هنا لا تُحصى بمناسبات، يبدو فيها السيّاح، مجرد منبّهات قد ضُبِطت لترنّ بدون استئذان. العيد عند الفلاحين ساعتان: ساعة الحصاد وساعة التبادل. لريف كمبوديا، أيضاً، سحران: سحر الصباح، وسحر الليل. إن كان الصباح يكتسب ألوانه من طبيعة متنوّعة، فالليل يتلوَّن بإضاءة منبعثة من لهيب احتراق كومات القشّ المتراكمة أمام البيوت الخشبيّة. لكلّ كومة حكاية أو مسيرة، لا يعرفها سوى الفلاحين العائدين من حقولهم.
في الطريق إلى البحيرة العظيمة:
لا تنتهي طقوس الريف هنا، بل تبدأ في رحلةٍ باتجاه "البحيرة العظيمة”، أي "التونل ساب" في لغة الخمير. رحلة تمر بالطرقات الرملية المتشققة بين الحقول، حيث ترى الأطفال كحباتِ فطرٍ نبتت على جانبي الطريق، الذي يخترق سكينة بيوت الفلاحين وحرمتها. ربما يبدو الأطفال سعداء بمرورنا، يتعلَّمون بمرور السيّارات العد والسهو والخطأ. ربما يحلمون بهذه السرعة الزائدة لبقراتهم البيضاء التي يرعونها، يحلمون بأسر هذه السرعة الوافدة إليهم، ليمنحوها هديةً لأهلهم كي توفّر عليهم عناء الفلاحة في انتظار نضوج المواسم. نسير باتجاه قرية "كومبونغ بلاك" (Kompong Phluk) المتوارية خلف غابات المانغروف، على ضفاف بحيرة تونل ساب. نمرّ بقطعان الجواميس عبر الطريق الرملية الوحيدة حتى نصل إلى مكان لا يمكن للسيارة عبوره، فنستبدلها بمركب خشبي ليقلّنا عبر مجرى مائي متفرِّع من البحيرة. نصل إلى القرية التي تبدو لنا بيوتها من بعيد ذات أرجل طويلة. تبدو البيوت على الضفّة كامرأة خلف أذنها شجرة بوغنفيلية، وقد رفعت فستانها الصيفي الملوّن المزركش، كي لا تُبلِّل طرفه بماء البحيرة.
وقت القرويين لا يشبه وقت الآخرين:
ترتبط "كوبونغ بلاك” بالبحيرة العظيمة في علاقة لا فكاك منها. إنها ميناء من الأنياب كما يسمِّيها سكان القرية. الحياة على ضفة بحيرة بمساحة اثني عشر ألف مربع، أثناء المواسم الماطرة تمنح سكان كومبونغ ثروة سمكية يعتاشون منها. ويمنح فيضان البحيرة بيوتَ القرية شكلاً فريداً، بحيث ترتفع البيوت الخشبية على أعمدة يتراوح طولها بين السبعة والعشرة أمتار تقيها فيضان نهر الميكونغ. الحياة في القرية على قياس معدلات المياه. يعتاش مجتمع البحيرة بغالبيته على الصيد وتربية التماسيح في مزارع أُقيمت في ممرات مائية بين أشجار المناغروف. تلك الأشجار التي تنبت في الماء، وترتفع لتُشكِّل بيئةَ حاضنةّ للطيور المتنوعة مثل الببغاوات والطوقان والبجع. ناس كومبونغ البسطاء منخرطون في دورة حياة لا يخترقها سوى الزائرين منّا. نمشي في شارع القرية الوحيد ونحن تحت وطأة البهجة. إن ديناميكية هذا المجتمع الصغير المتواري خلف الغابة الاستوائية، والمواجه للبحيرة، تتجلّى بتجاهلنا. فلا وقت للوافدين إلا عند أطفال القرية. نتبادل والأطفال الدهشة، ونملأ أوقاتنا وفراغنا المتحصّل على العيش في الحواضر بصور الناس الطبيعيّين الذين لا يعرفون، أو لا تهمّهم، تعقيداتنا وبؤسنا. وقت ناس القرية لا يُشبه وقتنا. وقتهم فاكهة وأرزّ وسمك. أما تماثيل بوذا أمام الدار، فوقتٌ مستقطع لعوائل الفلاحين. بوذا الذهبي صندوق بريد أمنياتهم.
إقرأ أيضاً:لماذا جوازات السفر في العالم من أربعة ألوان فقط؟
الريف قصيدة الفلاح
تغرب شمس القرية في بحيرةٍ لا نهاية لها، حسب تعبير الناس هناك. يبدأ الناس بتوضيب قواربهم تحت منازلهم، وتفريغ حمولتها من السمك. يستحمّون عند تفرّعات المياه. ترتفع ألسنة النار من القش الذي يشعله السكان. الغروب في "كوبونغ" ليس غروباً رومنسياً بالمعنى المتداول للكلمة، كما أنه ليس غروباً جميلاً فحسب. هو غروب يستحق أكثر من التقاط صورة تذكارية. إنه غروب مرتبط بحياة الناس وحركتهم على ضفة البحيرة التي تضبط إيقاعهم اليومي. الشروق يأذن لهم ببدء رحلة الصيد، والغروب يدفعهم إلى مغادرة البحيرة باتجاه القرية. الشروق يدق جرس التعب، والغروب يعلن بدء استراحة الصيادين. يسمح الغروب للنسمات الباردة بأن تنسلّ من بين أشجار الغابات، لتداعب جباه الصيادين التي راكمت الملح عليها. الغروب وقت الأطفال، للصعود إلى منازلهم المرتفعة. الغروب ينزع عن بيوت القرية ألوانها المختلفة. نُطفئ كاميراتنا المزعجة، ونعود نحو الحاضرة. نعود وفي جعبتنا درس جديد: الريف بفلاحيه قصيدة مكتملة.
إقرأ أيضاً:اكتشفوا وسيلة السفر المناسبة