تبدو جائحة كورونا الجديد أخطر على فئات من الناس، وليس الحديث هنا عن ضعف المناعة بالضرورة، بل عن ضعف الوضع الاجتماعي. هذه هي حال المهاجرين السريين، والذين رفضت طلبات لجوئهم، في الدنمارك
استغل بعض الدنماركيين شروق الشمس، الأسبوع الماضي، على غرب البلاد، ليخرجوا من المنازل، في بلد يعاني من أجواء مظلمة وكئيبة طوال عدة أشهر في السنة. وبينما تجوب الشرطة الشوارع لتمنع تجمّع أكثر من شخصين، بسبب انتشار فيروس كورونا الجديد في الدنمارك، فإنّ هموم الآلاف في البلاد تختلف كثيراً عن هموم مواطنين وجدوها فرصة للاستمتاع بيوم مشمس. فالإيراني فرهاد، والعراقي علي، والسوري سعيد، يخشون لقاء أيّ شخص في مكان مفتوح، للحديث عن همومهم على هامش المجتمع. فهم من بين أكثر من 25 ألفاً ممن يوصفون بـ"مهاجرين غير شرعيين" أو مقيمين بلا إقامة رسمية، ممن لا يشملهم العلاج من فيروس كورونا الجديد، ولا تتوفر لهم أماكن للحجر الصحي.
يذكر فرهاد لـ"العربي الجديد" مخاوفه من أن يصاب بفيروس كورونا "فأنتهي إلى حيث لا علاج ولا اهتمام بحالنا، فأنا مثل مئات غيري ممن جرى رفض طلبات لجوئنا منذ أربع سنوات، ونعيش على قوائم الشرطة للترحيل". وإذا كان لفرهاد سرير يأوي إليه في أحد مراكز الترحيل، فإنّ علي العراقي يعيش متخفياً وبعيداً عن أعين السلطات بعدما وُضع أيضاً على قوائم الترحيل، وهو يرفض التعاون مع السلطات لتسفيره، وهي حال سعيد أيضاً الخائف من "أن يُرمى بي إلى دمشق، أي إلى نظام هربت منه أصلاً".
العيش على هامش المجتمع الدنماركي، بالترافق مع تسيير الشرطة دوريات في معظم المدن، يثير حالة خوف لدى آلاف ممن يقيمون بشكل غير شرعي، وليسوا جميعاً ممن تعلم السلطات بأماكنهم. خوف هؤلاء من الإصابة بفيروس كورونا الجديد، يتبادله معهم مجتمع يخشى من تحوّل المصابين منهم إلى "فيروس متحرك"، وفقاً لمتطوع في الصليب الأحمر الدنماركي، وناشطين يساريين يساعدون قدر الإمكان في إبراز قضية هؤلاء، لتنبيه سلطات الهجرة والطبابة إلى ظروفهم.
النظام الصحي الدنماركي، على العكس من الإسباني، على سبيل المثال، الذي لا يستثني حتى المقيم غير الشرعي من تقديم الاهتمام الطبي نفسه، لا يمنح هؤلاء فرصة حتى في الحجر المنزلي المناسب، إذ تكتظ مراكز الترحيل بهم، كما تكتظ المنازل التي يعيش فيها طالب اللجوء المرفوض مع من يعرف من لاجئين يخافون بدورهم على أنفسهم، من العدوى ومن انكشاف إيوائهم لمتخفين عن أعين السلطات.
في بلدية العاصمة كوبنهاغن، حذّر موظفون وعاملون في الصليب الأحمر الدنماركي، منذ أسابيع، من "خطر ترك هؤلاء يواجهون مصيراً يؤثر عليهم وعلى المجتمع". هؤلاء الموظفون يعرفون أنّ نظامهم الصحي لا يغطي من لا يملك "رقماً شخصياً (وطنياً) للتأمين الصحي"، وإن كان مجانياً بالنسبة لجميع المواطنين. وأرسل المتخصصون في القطاع الصحي في كوبنهاغن رسالة إلى وزير الهجرة والدمج، ماتياس تسفايا، ولأعضاء في برلمان الدنمارك، لإيجاد حلول عملية لمشكلة تطاول أكثر من 26 ألف "مقيم غير قانوني".
في الأحوال العادية، قبل انتشار فيروس كورونا الجديد، وفرض السلطات إغلاقاً في البلاد، كان علي وسعيد قادرين على التوجه إلى عيادات معينة، بمساعدة دنماركيين، للحصول على علاجات بسيطة مجانية من دون حاجة إلى إبراز هوية، بل إنّ أحد أطباء الأسنان في مدينة آرهوس يذكر لـ"العربي الجديد" أنّه كان يتلقى اتصالاً "لقدوم لاجئ لا يملك إقامة، ونخصص له موعد علاج، إما في الصباح الباكر أو في أوقات ما قبل الإغلاق". تلك العلاجات، التي تتبرع منظمات داعمة للاجئين بالتواصل مع الأطباء والعيادات لإقناعهم بمعالجة من يعيش "تحت الأرض"، لم تعد ممكنة، مع تركيز الجميع على الفيروس وصعوبة الظروف اللوجستية.
تذكر منظمة "غاديجوريستين" المؤلفة من مجموعة محامين متطوعين يقدمون نصائح وإرشادات قانونية مجانية لمن ليست لهم إقامة، أنّه يصعب عليهم الآن التصرف إذا ما أصيب أحدهم بالفيروس. تقول مايا هانسن، من المنظمة: "ليست هناك حلول من طرف الحكومة لهذه المشكلة، فبعضهم لا يجد سقفاً يعيش تحته، فما بالك بحجر وعزل إذا ما اشتبه في إصابته بالفيروس؟". وفي حين تقدم البلديات أماكن حجر لمن يحمل إقامة، فإنّ تلك الفئة من "المهاجرين غير شرعيين"، ومن بينهم طالبو لجوء رفضت طلباتهم منذ سنوات عدة، لا يجدون أيّ ثغرة قانونية تتيح حمايتهم. والمأساة الأخرى التي يعيشها بعضهم، ويتحدث إلى "العربي الجديد" راجياً عدم ذكر اسمه، أنّ "جيوبي فارغة حتى من كرونه واحدة، فقد توقف عمل المطاعم وتوقف عملي". وعادة ما يعمل البعض ممن لا يحملون إقامة بما يطلق عليه "عمل أسود" لدى مهاجرين مقيمين منذ سنوات، ويشكون من استغلالهم في الأجور. وتوقف عمل معظم المطاعم أو خفضت نشاطها إلى أدنى مستوى، وبذلك وجد كثيرون أنفسهم بلا عمل أو نقود.
السجال الذي تثيره هذه الفئة من الناس، دفع بمسؤولة قطاع الصحة في منظمة الصليب الأحمر الدنماركي، فيبيكا لينسكيولد، للقول إنّ "الوضع ينذر بكارثة، خصوصاً بين المشردين الأجانب الذين لا يجدون أيّ مكان لهم للحجر". وبحسب ما تذكر صحيفة "إنفارماسيون" فإنّ لينسكيولد قالت إنّ "هؤلاء ما زالوا في الشارع، ويشكلون خطراً كبيراً في جعل أنفسهم عرضة للإصابة بالفيروس ثم نقل العدوى لمعارفهم ولبقية الناس".
وبعد أكثر من أسبوعين على السجال الذي خلّقه تهميش هؤلاء، ومخاطر الإصابة، ما زالت قضيتهم من دون حلّ. بعضهم يقيم أحياناً في ما يشبه "مخيمات" سرية في بعض الغابات التي يصعب كشفها، والأغلبية من آسيا، من بينهم إيرانيون وأفغان، ومن عرب آسيا وأفريقيا، وفيهم عراقيون وسوريون وصوماليون، وأفارقة من إريتريا وإثيوبيا، بالإضافة إلى أوروبيين من شرق القارة، من خارج دول الاتحاد الأوروبي. كلّ هؤلاء تفرض عليهم السلطات، ما إن ترفض طلبات لجوئهم، أن يقيموا في مراكز ترحيل، بانتظار تعاونهم مع سفارات دولهم للقبول بتسلمهم.
وبحسب ما علمت "العربي الجديد"، فإنّ "بعض أهل الخير يقومون منذ ما قبل انتشار وباء كورونا الجديد بمساعدة هؤلاء، على الأقل لسدّ رمقهم، ولا نفرق بين مسلم وغير مسلم، ونعرف أنّه ربما نخاطر بذلك قانونياً، لكنّنا نقوم بواجب إنساني"، وفقاً لما يذكر أحد رجال الدين المسلمين في آرهوس، والذي طلب عدم نشر اسمه. وفي الوقت نفسه، تقوم منظمات تطوعية كنسية في بعض مناطق الدنمارك، خصوصاً في الشتاء البارد، بـ"توفير ما يمكن من مساعدة لهؤلاء الذين يعانون أضعاف ما يعانيه المشرد الدنماركي العادي، فالأخير لديه تأمين صحي ويستطيع الحصول على مساعدة شهرية من البلديات، أما هؤلاء الذين بلا إقامات فلا يستطيعون الحصول على شيء، خصوصاً من يختارون مغادرة مراكز الترحيل" بحسب ما يذكر أحد القساوسة في محافظة آرهوس لـ"العربي الجديد".
من ناحية أخرى، يؤكد لـ"العربي الجديد" مشرعون من اليسار الدنماركي، تحديداً حزبي اللائحة الموحدة وحزب الشعب الاشتراكي، أنّهم يعملون مع أحزاب يسار الوسط للضغط على حكومة الاجتماعي الديمقراطي، برئاسة ميتا فريدركسن، لإيجاد "حلول عملية ورسمية وسريعة لمشكلة أكثر من 25 ألف إنسان في مجتمعنا".
ومن الجدير بالإشارة أنّ حكومة "يسار الوسط"، بزعامة فريدركسن، ورثت عن حكومة يمين ويمين الوسط السابقة بزعامة لارس لوكا راسموسن، حزمة من القوانين المشددة، التي أدخلتها وزيرة الهجرة السابقة إنغا ستويبرغ، من حزب فينسترا (يمين وسط ليبرالي) بحق المهاجرين، خصوصاً طالبي اللجوء الذين رفضت طلباتهم، وبدء تنفيذ سياسة وقف تجديد اللجوء لسوريين وفلسطينيين سوريين، حصلوا على إقامات مؤقتة، ما يحيلهم إلى "مقيمين غير شرعيين".
وينتشر الفقر بين فئة المهاجرين المقيمين بصفة مؤقتة، قابلة للتجديد، بفعل سياسات الحكومة السابقة، التي تمنح العائلات "مساعدة شهرية" تكفي فقط لسد الرمق. كذلك، تتربص ببعض السوريين تحديداً مخاطر كثيرة، وهم نحو أربعة آلاف، ممن حصلوا على إقامات مؤقتة تشترط لتمديد الإقامة تحقيق مئات ساعات العمل قبل التمديد. وبعد سياسة الإغلاق التي طاولت أماكن عمل هؤلاء "لا أحد يعرف كيف ستتصرف دائرة الهجرة مع قضايانا التي لن تستوفي بالورق شروط الدائرة لتمديد الإقامة" وفقاً لما يذكر اللاجئ المؤقت السوري، سوران كلوس.