في البداية، انخرط الناس هنا في حساب المصدر الذي جاء منه فيروس كورونا حين أعلنت الصين عن اكتشافه في إحدى مدنها. هل هو مؤامرة إمبريالية نفّذتها الولايات المتّحدة الأميركية كي تخرّب اقتصاد الصين، البلد الذي يصعد نجمه في الاقتصاد العالمي ويتحوّل يوماً بعد يوم إلى عملاق يهدّد المصالح الأميركية أوّلاً، بوصفها رأس الرأسمالية العالمية، والمصالح الرأسمالية عامة؟ أم هي مجرّد عدوى من فيروس مركّب وغريب على البشرية كلّها، لا يعرف العلماء أنفسهم، حتى اليوم، مصدر تكوُّنه وتكاثره وإن باتوا يعرفون جيّداً طرائق تكاثره وعدواه؟
كان من الصعب أن تُقنع أولئك الذين يتبنّون نظرية المؤامرة أنَّ هذا الكائن بالذات لم يكن صناعة أميركية. ودون أن نبرّئ الوحش الإمبريالي الذي يمكن أن يفعل أيَّ شيء في سبيل انتصاره على خصومه، سواء كانوا من الطينة الاقتصادية ذاتها، أي من أتباع نهج الرأسمالية، أم من طينة اقتصاد آخر، كما فعل حين كانت الاشتراكية لا تزال حية، فإنَّ الصين نفسها قمعت بلا رحمة كلّ من حاول أن يحذّر من انتشار المرض في البداية.
ولكن الفيروس يبدو كما لو أنه أراد أن يثبت للعالم، أنه في حقيقة الأمر ابن نشط وبارّ للحضارة المعاصرة، ذلك أنه لا يقبل اللعب على أرض واحدة، ولا يرضى بساحة واحدة حتى لو كانت الصين نفسها، ولا يستطيع أن يبقى في بلد واحد. أليست هذه بعض أهم صفات الرأسمالية؟ فما دمتم تريدون التجارة الحرّة مثلاً، فإن الفيروس سيركب أول طائرة متّجهة إلى أي مكان على ظهر أيّة سلعة من تلك التي ستتاجرون بها بحرية، وما دمتم تريدون مواصلة الحروب بحرية فإن الفيروس سيثبت لكم أنه محارب من طراز ساحق. وما دمتُم ترغبون في سحق الثورات وتحرّكات الشعوب المطالبة بالديمقراطية والإصلاح فإن الفيروس سوف يمنع أي تجمُّع. وكما اغتنى تجّار الحروب، سوف يساعد الفيروس تجّار الأوبئة.
وقد أثبت كورونا أكثر من النظريات، ومن وسائل التواصل الاجتماعي، والمطارات والفضائيات ذات الأخبار العاجلة، أنَّ العالم صغير جدّاً، وأنه يتألّف من بضعة أحياء متجاورة لا تستطيع أن تستعصي على هذا الكائن المجهري، وأنّ من الصعب على أيّ حي من أحيائها مهما وضع من جدران وعوائق منعه من التسلُّل أو من الدخول إلى أراضيه.
في مقالته "ديالكتيك الخوف"، قال الناقد الإيطالي فرانكو موريتي إنّ خوف الحضارة الحديثة يتلخّص في اسمين اثنين: فرانكشتاين ودراكولا. وبعد أن كانت الحضارة قد أنجبت فيروساً إلكترونياً يُهاجم الوثاق والبرامج ووزارات الدفاع، فإنها اليوم تضيف إلى هذين الكائنين القادمين من الرواية كائناً آخر لم يأت من المخيّلة البشرية هو كورونا الذي أخذ يتحرّك بيننا وراء تحديثات جديدة.
قال موريتي إن فرانكشتاين مخلوق جمعي وصنعي، فهل تصدُق نظرية المؤامرة ويثبت أيضاً أنَّ هذا الوحش الذي لا يُرى بالعين مخلوق صنعي أيضاً؟ وكما نشأ أدب فرانكشتاين تعبيراً عن توحُّش الرأسمالية والمجتمع الصناعي، فهل سنشهد نشوء أدب بطله كورونا المستجد؟
* كاتب من سورية