كورونا على محكّ "الدفاع"
وددت لو كان ثمّة مقياس للشماتة والتشفّي، ليقيس درجتهما على وجوه ساسة العرب، وهم يشهرون "قانون الدفاع" في بلدانهم، بذريعة مكافحة تفشّي كورونا. صحيح أن ساستنا لا يعييهم اختراع أي سببٍ لإصدار مثل هذا الفرمان، غير أن الوباء شكّل فرصةً سانحةً تقيهم شرور العتاب واللوم؛ لأنه مغلفٌ بثوب إنساني عالمي، قوامه "حماية الأرواح"، ووقاية البشرية من عدوّ فتّاك، يحتشد الجميع لمحاربته، فتراكضوا لاعتلاء منصّات الإعلام بلا تردّد هذه المرة، وتصنّعوا جهامةً لها ما يسوّغها، وهم يهدّدون ويتوعدون "العدوّ" المتسلل إلى محمياتهم، فيما تقف شعوبهم حائرةً تتساءل كيف يمكن إخضاع هذا الفيروس للأحكام العرفية، على الرغم من أنهم يدركون جيداً أن هذا الوعيد موجه إليهم وحدهم.
الواقع أن ثمّة استسهالاً يقارب "الإسهال" في ما يتعلق بإعلان الأحكام العرفية وقوانين الطوارئ في بلادنا، فهي أسرع القوانين إشهاراً، وأدقّها تطبيقاً، عند أي مفصلٍ حرج؛ لأنها قوانين تنسجم ومتطلبات التفرّد بالسلطة وإنفاذ القرارات الأحادية، ولا تحتاج أزيد من توقيع أمر دفاعٍ لتصبح واجبة التطبيق.
والحال أن الشعوب العربية اكتوت بنار هذه القوانين التي زامنت استقلال دولها. أولاً، بحجة ضرورات التأسيس والبناء، واستمرت تالياً مع الانقلابات التي وجد فيها عسكر الانقلابات حلّاً سحريّاً لشروط "تطهير" البلاد من طغمة العهد البائد. وفي المحصلة، أصبح "الطارئ" مزمناً عاصر مجالس قيادات الثورات الحاكمة التي لم تتخلّ عن أزيائها العسكرية، على الرغم من مضيّ عقود على تلك "الثورات"، وتجلّت ذروة المفارقات حين كان وزراء الثقافة في تلك المجالس يتمنطقون بالمسدسات، سواء في اجتماعاتهم أو جولاتهم التفقدية، بل حتى في المهرجانات الأدبية والفنية التي كانت تعقدها حكوماتهم، على غرار وزير ثقافة عراقي سابق، كان يذكّرني بمسدس غوبلز.
باختصار، لم يلتقط العرب أنفاسهم منذ استقلال بلدانهم من عبء الأحكام العرفية، ولم تسنح لهم محطةٌ واحدةٌ لاستراحة المحارب، بل كان كل قانون طوارئ يسلّمهم لقانون آخر، ولم يكسر السلسلة غير ثورات الربيع التي لم تدم طويلاً قبل الإجهاز عليها. أما الذرائع فجاءت سانحةً وخادمةً لجنرالات الطوارئ، فمن ضرورات "التعبئة" و"التحشيد" لمقاومة "العدوّ المشترك" منذ عام 1948، ومن موجبات الإعداد للمجهود الحربي سنة 1967، وصولاً إلى المرحلة الراهنة التي لم يعد فيها العدوّ "مشتركاً"، استدام المؤقت وتوقّت المستدام، بدليل أننا وجدنا أن مرحلة السلام ذاتها التي يفترض فيها أن تكون "خاتمة الأحزان" احتاجت، هي الأخرى، إلى قانون طوارئ يحصّنها ويكرّسها ويحميها ضد "أعداء السلام"، حتى وإن كان المقصود بالأعداء الشعوب العربية برمّتها.
وأخيراً، يجيء كورونا سبباً مقنعاً لإدامة حالة الطوارئ التي لم تفارق بلداناً عربية كثيرة، أصلاً، أو لإعادة تفعيلها في بعضها الآخر، الذي يبدو أن الندم أصاب قادته في مقتل، حين دفعتهم "غفلة إبليسية مشؤومة" إلى تجميدها.
على الضفة الأخرى، وعلى نحو مغاير، يتردّد ساسة الغرب في اتخاذ أي قرار عرفيّ لمواجهة كورونا، على الرغم من أن أنظمتهم الصحية كانت على مشارف الانهيار، غير أن شعوبهم تأبى أن تقايض حرياتها بالتعافي من الوباء؛ لأنها تدرك أن الحرية أقدس من حياةٍ بلا حرية.
في المجمل، يراوح كورونا بين ثقافتين. ترى الأولى أن الأحكام العرفية كفيلة بسحق الوباء، والأخرى تؤمن بأن ثمّة أسلحة أخرى أشدّ فتكاً بالفيروس، باستثناء الحرّيات التي ينبغي أن تبقى مصونة؛ لأنها موقنة من واقع تجاربها المريرة، أن الوباء الأخطر على البشرية هو وباء الاستبداد، وإلا فأي قيمة لإنسان معافى من كورونا وموبوء بالعبودية؟ الثانية تؤمن بأن "آخر الدواء الكيّ"، والأولى تؤمن أن "أوّل الدواء الكيّ"، الثانية ترى أن الحل يكمن بقتل الفيروس من دون الجسد، والأولى تؤثر قتل الجسد قبل الفيروس.
أما الطامة الكبرى، فتأتي من مثقفين عرب يروّجون أحكام الطوارئ، ويطالبون بها لمكافحة كورونا، على الرغم من أن كثيرين من هؤلاء اكتووا بسياط هذه الأحكام، وتعرف جلودهم جيداً كيف يجري توظيفها في سحق الحريات والكرامات، وأن كورونا سيزول وتخلد الطوارئ.