لا يزال العالم يحتفظ بصور استثنائية لحلاقين بلا صالونات، في الأرياف والمناطق الفقيرة على هوامش المدن، إلا أن الصورة المستقرة هي لمحل حلاقة وكرسي عليه زبون، بينما يدور الحلاق نصف دورة. يقص الشعر، ويصففه، وينتف الزغب.
تعثر على صورة تعود للتسعينيات من القرن الماضي لحلاق في كوبا يقص شعر شاب تحت شجرة.
في مصر يشتهر هذا النمط باسم "حلاق جمّيزة"، فيما يبدو أنه مرتبط بحلاق يذهب بنفسه إلى غيطان الفلاحين، ويؤدي مهمته تحت شجرة جميزة، مقابل ثمن عيني، غالباً من الخضار أو الحنطة.
وثمة صور أخرى يمكن تصفّحها، يبرز فيها حلاقون شعبيون على دكك، في أي من قارات العالم.
بالجملة، هي صورة استثنائية، تدور في فلك الرجال، فمن غير المتوقع العثور على امرأة بين يدي حلّاقة في الشارع العام. واستثنائيتها تأتي من استقرار صورة الحلاق في مكان ثابت، يستقبل الزبائن.
ما يقع هذه الأيام، أن صالونات الحلاقة هي ضمن المحال المصنفة بـ"غير الضرورية"، وعليه تخضع للإغلاق في دول كثيرة، استجابة لإجراءات مكافحة تفشي الوباء.
ويلتزم غالبية الناس بالحجر المنزلي، فيكون الخروج إلى الشارع بإذن السلطات المحلية التي تتفاوت شدة إجراءاتها من بلد إلى آخر.
لكنّ القابعين في حجرهم المنزلي الرجال وهم يرون شعرهم وأذقانهم تطول، والنساء وهنّ ممنوعات عن زيارة الصالون لصبغ الشعر وتصفيفه، الجميع يريدون حلاً دون خرق القانون، والأهم من كل ذلك دون التعرض لخطر الفيروس.
من المتوقع أن الرجال والنساء قصّوا أظفارهم من جذورها، لأن جميع المتحدثين الصحيين يؤكدون على النظافة، تحديداً غسل اليدين. ولا يوجد مبرر لترك الأظفار مكاناً آمناً للفيروس.
يبقى الشعر الطويل الهمّ الأكبر، خصوصاً حين لا يكون من اختيارك بل مفروضاً عليك.
لا يريد الناس أن يبدوا بدائيين بشعر لا يسيطرون عليه. إن حلق الشعر وتصفيفه تراث حضاري عمره آلاف السنين.
في الجائحة، اضطر بعض الناس إلى تدبير أمورهم وحدهم، أو بمساعدة رفيق عائلي لتشذيب الشعر، كما يظهر في الصورة رجل هندي من مانودالي قرب دلهي، وهو يقص شعر طفل بمقص خياطين، لا حلاقين.
الظاهرة الجديدة التي تفشت مع الوباء، هي استعارة صورة الحلاق المتجول، لكن على طريقة "مكره أخاك لا بطل"، أي أن الحلاقين الذين يملكون صالونات حلاقة أو يعملون فيها، قرروا التحول إلى متجولين، لأن الأقفال محكمة على الأبواب.
الحلاق دريتون كاميري من بريشتينا عاصمة كوسوفو يقول إن "الناس في حاجة للحلاقة. يمكنك إغلاق المحال، لكن لا يمكنك أمر الشعر بالتوقف عن النمو. يجب قصه بانتظام".
كانت حقيبة الحلاق قديماً تشتمل على أدوات طبية، للحجامة وختان الأولاد في بعض الثقافات، وخلع الأضراس، وجبر الكسور.
ثم استقرت على دورها التزييني: مقصات شعر الرأس، أمواس حلاقة الذقن، مرايا، أمشاط، خيوط نتف.
عاد الحلاق من جديد يدور بحقيبته بين الأحياء، لكنه هذه المرة يحمل إضافة إلى عدة الحلاقة، معقمات، وقفازات، وكمامات، وأنواعاً آخر من الدردشات، غير ما عرف به الحلاق من موهبة فتح المواضيع والحكي الذي يرغب فيه الزبون، والابتعاد عن نموذج "حلاق بغداد" المزعج.
الكمامة والحظر والمرض مفردات تعيق الحركة الفيزيائية كما تعيق تدفق السرد لدى الحلاق.
يظهر في إحدى الصور حلاق عراقي، وهو يحلق لعنصر من قوات الأمن قبالة جامع الموصل الكبير.
وفي فلسطين على سطح أحد بيوت مدينة الخليل المغلقة بسبب الوباء، يظهر الحلاق جمال أبو حماد وابنه وهما يحلقان لرجل وطفل.
وفي مدينة كالكوتا الهندية تبدو الاحتياطات أقل أهمية في صورة الحلاق الذي يرتدي كمامة وبلا قفازين، مقرفصاً على مصطبة، يحلق ذقن زبون، بينما ينتظر طفل دوره لحلاقة شعره.
آلاف الصور التي تعيد للواجهة تراث الحلاق المتجول، تذكر الجميع بأنها التقطت على هامش الجائحة، والإغلاقات، ولا يبدو أن حظر التجول للمحلوق لهم، كافٍ للاطمئنان بأن الحلاقين أخذوا الاحتياطات، حسب المعايير الصحية لهم وللذين بين أيديهم، في الأحواش أو تحت شجرة أو على دكة.
ولا نعرف معايير مستشفى لنس، شمال فرنسا الذي استقبل حلاقين اثنين، تطوعا لقص شعر أعضاء من الطاقم الطبي، مجاناً.
هناك قبول عام لعودة الحلاق المتجول، مقابل قفل محله الذي يتوافر فيه تجمع أكبر يوفر فرصة لانتشار الفيروس، بينما حين يذهب بمفرده وبمعقماته، يجري التسامح مع هذه الصورة، معتمدين على قدر المسؤولية الاجتماعية التي يتحلى بها، حين يدخل البيوت، ويقترب من الآخرين ويقتربون منه.
لا يرى الناس ما يستحق كلمة شكر تجاه فيروس كورونا وتحت أي ظرف، حتى وهو يحيي صوراً قديمة لحلاقنا الذي كنا نسميه "المزين"، أو يجعل الهندي يرى جبال الهيملايا لأول مرة، لأن الوباء خفف من الدخان العادم، أو يجعل الطواويس تمشي في مدريد دون وجل، أو يعيد روح الدكان التي أهانها المول.
ولا أحد يسمع كوفيد 19، حتى لو قال بكل اللغات "لا شكر على واجب".