وكانت شركات التكنولوجيا وتقنية المعلومات الأكثر استجابة لنظام العمل عن بعد بسبب بنيتها المؤهلة لهذا النمط الجديد من التشغيل ولا سيما في الولايات المتحدة، صاحبة أكبر اقتصاد في العالم، والتي أصبحت الأولى عالميا في معدل الإصابات بالفيروس القاتل.
وبات واضحاً ما ينتظر أميركا من توسع في العمل من المنزل، ولفترات قد لا تكون قصيرة، بعد تراجع الرئيس الأميركي دونالد ترامب عن رغبته، التي أيدها الكثير من أصحاب الأعمال والرؤساء التنفيذيين للشركات الكبرى، بتخفيف إجراءات المباعدة الاجتماعية والعودة إلى استئناف النشاط الاقتصادي بحلول عيد الفصح في 12 إبريل / نيسان الجاري، وتأجيل التفكير في ذلك إلى ما بعد نهاية الشهر، بالإضافة إلى تزايد أوامر محافظي الولايات للمواطنين بالبقاء في منازلهم، وعدم السماح بالخروج إلا للوظائف الأساسية.
ومنذ بداية أزمة انتشار الفيروس، كانت شركات التكنولوجيا الحديثة في طليعة الشركات التي طلبت من موظفيها، أو سمحت لهم، أو أمرتهم بالعمل من منازلهم.
وقبل أن يمر شهر على ظهور أول حالة في الولايات المتحدة في 19 يناير / كانون الثاني الماضي، كانت شركات مثل فيسبوك وغوغل وتويتر وأمازون قد وضعت سياسات العمل عن بعد للعديد من موظفيها حول العالم، وبدأت في تنفيذها.
وكانت ألفابيت، الشركة الأم لمحرك البحث الشهير غوغل، سباقة في التوجه لإبقاء موظفيها في بيوتهم، ونصحتهم بالعمل عن بعد، وخاصةً من يعملون في أميركا الشمالية وأوروبا وأفريقيا والمنطقة العربية.
وفي حين أجبرت شركة تويتر، صاحبة موقع التواصل الاجتماعي الشهير، موظفيها حول العالم على العمل من منازلهم، سمحت فيسبوك لكل من تسمح طبيعة عمله من موظفيها في كل الدول بالعمل عن بعد بعدم الحضور إلى مقرات الشركة.
وأعلنت هذه الشركات الثلاث، كما غيرها من شركات التكنولوجيا الحديثة، اعتمادها على البيانات الصحية الرسمية المحلية والعالمية في تحديد المدى الزمني لذلك التوجه.
وبعد البداية الهادئة بمجرد النصيحة، أصدرت ألفابيت، التي توظف ما يقرب من 120 ألف موظف منتظم حول العالم، تعليمات صارمة لموظفيها بالالتزام بالعمل من منازلهم اعتباراً من 12 مارس/آذار الماضي، ولحين صدور تعليمات جديدة. ولم تتخل ألفابيت عن موظفيها المؤقتين، الذين تم تقليص ساعات عملهم بسبب أزمة انتشار الفيروس، حيث أعلنت أنها ستستمر في دفع أجورهم كما كانت تفعل قبل ظهور الفيروس.
واتبعت فيسبوك إجراءات مشابهة، حيث قال مارك زوكربيرغ، الرئيس التنفيذي للشركة، قبل أسبوعين في مكالمة مع الصحافيين، إن شركته، التي بدأت بالفعل في العمل بعيداً عن أغلب مقارها، ستعمل على زيادة استخدام الذكاء الاصطناعي لتخفيف محتوى موقع التواصل الاجتماعي الأشهر أثناء أزمة الفيروس، مضيفاً أن سياسة العمل من المنزل ستستمر حتى "يتحقق التعافي التام". واعتبر مراقبون أن خطوة الشركة لم تكن كافية.
وقال جو ريفانو باروس، مدير إحدى جمعيات حقوق العمال "إنه لأمر رائع أن يسمحوا لهم بالعمل من المنزل، ولكن هذا هو الحد الأدنى الذي يمكن أن تفعله الشركة"، مشيراً إلى أن العمال المتعاقدين (ويبلغ عددهم في فيسبوك ما يقرب من 15 ألف متعاقد) لا يحصلون على مكافآتهم، على عكس أولئك الذين يعملون مباشرة في الشركة.
ورغم اعتماد فيسبوك على تقنية اللوغاريتمات، منذ سنوات، في حجب المنشورات التي تتعارض مع سياسة الشركة، قال زوكربيرغ إن العمل عن بعد قد يتسبب في ظهور بعض المحتوى الذي كان يتعين حجبه، مضيفاً "أنا شخصياً قلق من احتمالات أن يتسبب الابتعاد عن الناس، خلال فترة العمل عن بعد، في إصابة المزيد من العاملين بالإحباط أو ببعض الأمراض العقلية".
وفي الأول من مارس/ آذار، نشرت تويتر بياناً أكدت فيه تعديل سياستها الخاصة بالعمل من المنزل، اعتباراً من الحادي عشر من نفس الشهر، من "يُنصح به بشدة" إلى "إجباري"، مع التعهد بدفع كامل أجور المتعاقدين المستقلين مع الشركة، ومنحهم بعض المخصصات لتوفير الرعاية المطلوبة لصغارهم، وتجهيز المنزل بما يتطلبه العمل، خلال فترة عملهم من منازلهم.
أما أمازون، التي جاء طلبها للعاملين فيها بالعمل من منازلهم بمثابة مزحة، كونها تتخصص في توصيل المنتجات المطلوبة إلى المنازل، فقد أكدت أن من تسمح أعمالهم بالعمل عن بعد هم فقط المعنيون بالطلب.
وعلى عكس الاتجاه السائد في الأغلبية العظمي من الشركات الأميركية، أعلنت أمازون توجهها نحو تعيين مائة ألف عامل، بعد أن تضاعف الطلب على منتجاتها، باعتبارها الشركة الأشهر في التوصيل للعملاء على مستوى العالم.
وقالت شركة أمازون إن تفشي فيروس كورونا تسبب في زيادة كبيرة في عمليات التسوق عبر الإنترنت، ودفعها لإضافة 100 ألف وظيفة جديدة بدوام كامل وجزئي في الولايات المتحدة.
وشركات التكنولوجيا تعد من أكبر القطاعات الاقتصادية نموا على المستوى العالمي، إذ ارتفعت القيمة السوقية لأكبر 10 شركات تكنولوجية عالمية بنحو تريليوني دولار خلال عام 2019 لتسجل أفضل عام في تاريخها ليصل إجمالي القيمة السوقية لها إلى حوالي 6.6 تريليونات دولار، حسب مجلة فوربس الأميركية.
وجاء قرار شركات التكنولوجيا بتحويل آلاف العمال إلى جدول عمل عن بعد ليدفع العديد من الصناعات الأخرى لتحذو حذوها، وإن كانت الأولى لديها ميزة نسبية، حيث تعتبر التقنية المتقدمة المتاحة لها مهيأة أكثر للتعامل مع الترتيبات الجديدة، كونها تحتوي على البنية التحتية والتكنولوجيا المؤهلة للتواصل الفوري بشكل فعال، وبالفعل كان العديد منها يستخدم تطبيقات التواصل عن بعد قبل حدوث الأزمة.
لكن نيكولاس بلوم، أستاذ الاقتصاد بجامعة ستانفورد بولاية كاليفورنيا، والمعروف بأبحاثه الداعمة لفكرة العمل من المنزل، رأى أن "التحول العالمي نحو العمل من المنزل، تجنباً للتوقف التام للنشاط الاقتصادي خلال فترة التعامل مع أزمة الفيروس، قد يتسبب في تراجع عالمي للإنتاجية، وهو ما يهدد النمو الاقتصادي لسنوات قادمة".
ودلل بلوم على كلامه بقوله "نحن نعمل في منازلنا بجوار أطفالنا، في مساحات غير مناسبة، دون حق اختيار أيام للعمل من مقر عملنا. هذا سيخلق كارثة في إنتاجية العاملين في الشركات".