08 نوفمبر 2024
كوريا الشمالية... كل هذا الضجيج
خلال إجرائها تجارب إطلاق الصواريخ، تثير كوريا الشمالية الضجيج. وفي الأوقات التي لا تُجري فيها التجارب، تثير أيضاً ضجيجاً كثيراً. يخطر في بال المرء سؤالٌ إن كان لديها شيء تقدّمه للعالم ولشعبها سوى الضجيج. ولكن، لماذا كل هذا الضجيج؟ ربما تخاف أن تُشنَّ الحرب عليها، أو ربما تسعى إلى شن الحروب على الآخرين. بالطبع، ليس هذا وقت الحروب، حيث يشهد العالم حروباً لم يشهد مثيلها منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية، ويسعى مواطنوه إلى وقفها، وليس لديهم توقٌ لاختبار حرب جديدة. فإن شُنَّت هذه الحرب، يهدّد الكوريون بأنها ستكون مصيريةً للكوكب، حيث سيستخدمون فيها الأسلحة النووية، وستكون، بالتالي، حرب الجنس البشري الأخيرة.
في هذا التهويل الذي تثيره كوريا الشمالية، ليس هنالك سوى أمر واحد يمكن استنتاجه: تسعى الولايات المتحدة الأميركية إلى تغيير نظام الحكم في بلدهم، وعلى الكوريين الشماليين مسابقة الزمن لامتلاك الأداة التي تمنع ذلك. هذا هو الأمر الوحيد الذي يشغل اهتمامهم، ويوجّه سياساتهم ونشاطهم الاقتصادي. فقد رأى هؤلاء أن نظامهم من آخر الأنظمة الاشتراكية القليلة على قيد الحياة، ولديهم اليقين أنه دائماً موضوعٌ ضمن مرمى خطط الإدارة الأميركية لتغيير الأنظمة التي تتحيّن الفرصة للإيقاع به، فهم لا يزالون تحت تأثير صدمة الانهيار المدوّي الذي طاول الاتحاد السوفياتي ومنظومة الدول الاشتراكية التي بدأت تتساقط سنة 1991، ويرون أن أسباباً له وفَّرتها الولايات المتحدة والدول الأوروبية.
طوال فترة عدائها الولايات المتحدة، لم تستطع كوريا الشمالية استنباط أشكالٍ أخرى لمواجهة
واشنطن سوى الشكل العسكري، والذي يبقى "نمراً من ورق"، في غياب أشكالٍ أخرى داعمة وموازية له في التقدم المحرز على الصعيد العسكري. ففي حين استطاعت الأنظمة التي تتبنّى الفكر الاشتراكي في الصين وفيتنام، وإلى حد ما في كوبا، وتحكمها أحزابٌ شيوعيةٌ كما هو في كوريا الشمالية، أن تجري إصلاحاتٌ اقتصاديةٌ أدخلت المرونة إلى نظامها، ووفرت التربة الخصبة لتوطُّن رؤوس الأموال الغربية فيها، واجتذاب مختلف أشكال الاستثمارات التي دفعت اقتصادها إلى الأمام، وجعلته أكثر تنوعاً وقدرةً على الاندماج في الاقتصاد العالمي، ما انعكس إيجاباً على مستوى دخل الفرد ومعيشة المواطنين فيها، بقيت كوريا الشمالية أسيرة نظامها المقتصر على إدارة الدولة وسائل الإنتاج، أي قطاع واحد هو القطاع العام.
وعلى الرغم من العقوبات الاقتصادية عليها، بقيت كوريا الشمالية ممانعةً إحداث اقتصاد مختلط، على غرار اقتصاد مثيلتيها، الصين وفيتنام، تكون فيه مساحةٌ للمبادرات الفردية، يخفّف من سطوة الدولة ويحدث نمواً اقتصادياً ينتشل شعبها من الفقر الذي يرزح تحته. وهي، لذلك وعليه، بقيت منيعةً في وجه الاستثمارات الخارجية التي تسعى الحكومات عادة، بكل ما أوتيت من قوانين ملائمةٍ، إلى اجتذابها. كما بقيت صناعة السلاح وبيعه عماد اقتصادها، وهي صناعةٌ تشهد نمواً دائماً وأولويةً استثنائيةً، في حين أن كامل اقتصادها يشهد انكماشاً، سببه الإهمال والتركيز على العسكرة بشكل أساسي، وهو ما تسبّب، إضافةً إلى الفيضانات التي خرّبت المحاصيل، بحصول مجاعةٍ، ضربت البلاد سنة 1994، واستمرت أربع سنوات، أهلكت أكثر من مليونين من سكان البلاد.
وفي وقتٍ لاح فيه شبح المجاعة مرة أخرى، سنة 2015، بسبب الجفاف، وحذّر تقريرٌ صدر عن الأمم المتحدة في 23 مارس/ آذار الماضي، من مجاعةٍ جديدةٍ قد تضرب البلاد، ويتأثر
بها نصف السكان، تصرّ قيادة البلاد على الاستمرار في برنامجها الصاروخي، وفي تجاربها النووية، وهو ما يجلب لها مزيداً من العقوبات، إن لم يكن مواجهة عسكرية تقودها الولايات المتحدة. ويقامر قادة كوريا بأرواح شعبهم، في مقابل بقائهم في الحكم، ويهدرون الأموال الطائلة، اللازمة لتوفير الغذاء للشعب، على تطوير أسلحةٍ، يعرفون أنهم إن استخدموها سيكونون، هم وأعداؤهم، ضحاياها المؤكدين.
ولكن، ما الرسالة السامية التي يحملها قادة كوريا الشمالية، أو بالأحرى "قائدها المحبوب"، كيم جونغ أون، ويريد إبرازها وإيصالها إلى البشرية؟ ربما هو درسٌ في مقارعة الرأسمالية والإمبريالية، وجعلها تفكر ألف مرة قبل مهاجمة بلاده. لا بأس في ذلك. ولكن، ليس حين يكون الشعب جائعاً، يقتات على لحم الحمير والقوارض، ويبحث بين أعشاب البراري على ما يمكن أن يقيه الموت جوعاً، أو بفعل أمراضٍ يسببها سوء التغذية، بينما تُورِّدُ النعمةُ وجنتَي حاكم بلادهم، ويعاني السمنة من فرط الأكل. أو ربما هو درسٌ في حب القائد الذي يترك لمواطنيه حرية الاختيار بين الموت تفجعاً حزناً على وفاة عمّته، أو مواجهة تهمة الخيانة العظمى، لقلة سخاء عيونهم بالدموع.
من جهة أخرى، وعلاوةً على أن نشاط كوريا الشمالية العسكري، وتطويرها الأسلحة النووية والصواريخ القادرة على حملها، هو عاملٌ رادع لأي اعتداءٍ أو محاولة لتغيير نظامها، إلا أنه أشبه ما يكون بسباق التسلح الذي فُرضَ على الاتحاد السوفييتي، وكان أحد أسباب انهياره، وهو درسٌ لم يستوعبه نظام بيونغ يانغ. وإن انطلقنا من الظرف العسكري المحيط بها، نستطيع أن نبرّر لقيادة هذه البلاد ما تقوم به من تجارب نووية وصاروخية، لا يبدو لها أي غايةٍ سوى ردع من يفكّر بمهاجمتها. ولكن، ثبت أن سلامة الأنظمة وانتصارها على التهديد، ليس انتصاراً للشعوب التي تترك الأنظمة بطونها خاويةً، وتطالبها بالزحف على الأعداء. وبينما الأعداء في طريقهم إلى كوريا، تعاني بطون جنودها من خواء مزمن.
في هذا التهويل الذي تثيره كوريا الشمالية، ليس هنالك سوى أمر واحد يمكن استنتاجه: تسعى الولايات المتحدة الأميركية إلى تغيير نظام الحكم في بلدهم، وعلى الكوريين الشماليين مسابقة الزمن لامتلاك الأداة التي تمنع ذلك. هذا هو الأمر الوحيد الذي يشغل اهتمامهم، ويوجّه سياساتهم ونشاطهم الاقتصادي. فقد رأى هؤلاء أن نظامهم من آخر الأنظمة الاشتراكية القليلة على قيد الحياة، ولديهم اليقين أنه دائماً موضوعٌ ضمن مرمى خطط الإدارة الأميركية لتغيير الأنظمة التي تتحيّن الفرصة للإيقاع به، فهم لا يزالون تحت تأثير صدمة الانهيار المدوّي الذي طاول الاتحاد السوفياتي ومنظومة الدول الاشتراكية التي بدأت تتساقط سنة 1991، ويرون أن أسباباً له وفَّرتها الولايات المتحدة والدول الأوروبية.
طوال فترة عدائها الولايات المتحدة، لم تستطع كوريا الشمالية استنباط أشكالٍ أخرى لمواجهة
وعلى الرغم من العقوبات الاقتصادية عليها، بقيت كوريا الشمالية ممانعةً إحداث اقتصاد مختلط، على غرار اقتصاد مثيلتيها، الصين وفيتنام، تكون فيه مساحةٌ للمبادرات الفردية، يخفّف من سطوة الدولة ويحدث نمواً اقتصادياً ينتشل شعبها من الفقر الذي يرزح تحته. وهي، لذلك وعليه، بقيت منيعةً في وجه الاستثمارات الخارجية التي تسعى الحكومات عادة، بكل ما أوتيت من قوانين ملائمةٍ، إلى اجتذابها. كما بقيت صناعة السلاح وبيعه عماد اقتصادها، وهي صناعةٌ تشهد نمواً دائماً وأولويةً استثنائيةً، في حين أن كامل اقتصادها يشهد انكماشاً، سببه الإهمال والتركيز على العسكرة بشكل أساسي، وهو ما تسبّب، إضافةً إلى الفيضانات التي خرّبت المحاصيل، بحصول مجاعةٍ، ضربت البلاد سنة 1994، واستمرت أربع سنوات، أهلكت أكثر من مليونين من سكان البلاد.
وفي وقتٍ لاح فيه شبح المجاعة مرة أخرى، سنة 2015، بسبب الجفاف، وحذّر تقريرٌ صدر عن الأمم المتحدة في 23 مارس/ آذار الماضي، من مجاعةٍ جديدةٍ قد تضرب البلاد، ويتأثر
ولكن، ما الرسالة السامية التي يحملها قادة كوريا الشمالية، أو بالأحرى "قائدها المحبوب"، كيم جونغ أون، ويريد إبرازها وإيصالها إلى البشرية؟ ربما هو درسٌ في مقارعة الرأسمالية والإمبريالية، وجعلها تفكر ألف مرة قبل مهاجمة بلاده. لا بأس في ذلك. ولكن، ليس حين يكون الشعب جائعاً، يقتات على لحم الحمير والقوارض، ويبحث بين أعشاب البراري على ما يمكن أن يقيه الموت جوعاً، أو بفعل أمراضٍ يسببها سوء التغذية، بينما تُورِّدُ النعمةُ وجنتَي حاكم بلادهم، ويعاني السمنة من فرط الأكل. أو ربما هو درسٌ في حب القائد الذي يترك لمواطنيه حرية الاختيار بين الموت تفجعاً حزناً على وفاة عمّته، أو مواجهة تهمة الخيانة العظمى، لقلة سخاء عيونهم بالدموع.
من جهة أخرى، وعلاوةً على أن نشاط كوريا الشمالية العسكري، وتطويرها الأسلحة النووية والصواريخ القادرة على حملها، هو عاملٌ رادع لأي اعتداءٍ أو محاولة لتغيير نظامها، إلا أنه أشبه ما يكون بسباق التسلح الذي فُرضَ على الاتحاد السوفييتي، وكان أحد أسباب انهياره، وهو درسٌ لم يستوعبه نظام بيونغ يانغ. وإن انطلقنا من الظرف العسكري المحيط بها، نستطيع أن نبرّر لقيادة هذه البلاد ما تقوم به من تجارب نووية وصاروخية، لا يبدو لها أي غايةٍ سوى ردع من يفكّر بمهاجمتها. ولكن، ثبت أن سلامة الأنظمة وانتصارها على التهديد، ليس انتصاراً للشعوب التي تترك الأنظمة بطونها خاويةً، وتطالبها بالزحف على الأعداء. وبينما الأعداء في طريقهم إلى كوريا، تعاني بطون جنودها من خواء مزمن.