05 نوفمبر 2024
كويتزي في حكايتين لُغزين
لا بد لقارئ الكاتب الجنوب أفريقي والأسترالي اليوم، جون ماكسويل كويتزي، في روايتيه "طفولة يسوع" (2013) و"تربية يسوع" (2017)، من أن يجد نفسه شبه ضائعٍ في أجواء مختلفة تماما عن التي عوّده عليها حائزُ "نوبل" للآداب، في رواياته المعروفة، ومن بينها "العار"، "بانتظار البرابرة"، "فو"، أو "معلّم بطرسبرغ"، إلخ. فالروايتان المذكورتان تحكيان قصة رجل وطفل، هما سيمون ودافيد، لا نعرف عن ماضيهما شيئا أكثر من أنهما التقيا على متن سفينةٍ تحمل مهاجرين إلى وجهةٍ ما، فكان أن حنّ سيمون، الرجل الأربعيني، على الولد دافيد مجهول الهوية الذي لا يعرف هو، أو أي أحد، شيئا عن أصوله أو ماضيه.
عند نزولهما من السفينة، يتجه الاثنان إلى مخيّم لاجئين، أقيم على حدود بلادٍ لا نعرف اسمها أو ماهيتها. في البلاد الجديدة تلك، على الاثنين أن يعيدا ابتكار هويةٍ لهما، أن يتعلّما اللغة الإسبانية، ويتكيّفا مع الواقع الجديد، الوعر والقاسي. "نحن نصل هنا مغسولين من ماضينا. نبدأ بلوحٍ لا كتابة عليه، بلوح فارغ تماما"، يقول سيمون الذي سيجد عملا، حمّالا على رصيف أحد الموانئ، إلى أن يلتقي مصادفةً بامرأة هي إيناس الغامضة، فيقترح عليها أن تكون أمّا بديلة للصغير دافيد، وتقبل إيناس.
هذه باختصار قصة "طفولة يسوع" التي تبقى معظم معانيها منغلقةً على القارئ، وإن كان جليّا أنها حكاية عن الاقتلاع من الجذور والهوية الضائعة ومصائر المهاجرين، في عالمٍ فقد كلّ معالمه.
في الرواية الثانية، "تربية يسوع"، وهي تتمة للأولى، ها إن العائلة التي تذكّر بالعائلة المقدّسة (يوسف ومريم ويسوع)، تقع ضحية مساءلة السلطات المحلية وملاحقاتها، لأنها رفضت تسجيل ابنها في المدرسة، مفضّلة تربيته في البيت، وتعليمه مغامرات "دونكيشوت". وهو ما سيضطر العائلة إلى سلوك طريق المنفى من جديد، بصحبة الكلب بوليفار، متجهةً إلى بلدة إستريللا، حيث تختلط بمجموعات العمّال المزارعين المقيمين فيها.
يتعرّف دافيد إلى أهل القرية شيئا فشيئا، ويعتاد الحياة في ما بينهم، مكتشفا عالم الطبيعة، رافضا الانصياع لما يفرضه عليه الكبار من قوانين وقواعد، ومزدادا نضجا وتمرّدا واستقلالية. "هو لا يريد أن يكون مثلنا، قلقا على المستقبل. هو يريد أن يكون حرّا"، تقول إيناس مدافعة عن ابنها، فيجيبها سيمون: "أنا لا أسيّر حياته، ولا أدّعي إعطاءه النصائح حتى. الحقيقة أنه ينهكنا ويتصرّف كجرّافة. لقد دهسنا إلى درجة أننا تسطّحنا، وما عدنا نُظهر أية مقاومة".
بيد أن الشيء الوحيد الذي يقبل الولد المتمرّد الانصياع له هو التسجيل في مدرسة الرقص التابعة للبلدة، حيث تعمل راقصة الباليه الجميلة، آنا المجدلية، وزوجها عاشق الموسيقى، على تربية نفوس الأطفال من خلال تعليمهم الموسيقى. الهدف من ذلك، يقول الزوجان، هو "توجيه تلاميذنا وأخذهم في اتجاه الانسجام والتناغم مع الكون"، بما أن الأخير هو أجمل تصاميم الرقص على الإطلاق، حيث يقيم "علمُ الأرقام والنجوم".
هكذا تمضي الرواية في تغذية ألغازها وأبعادها الفلسفية وتعدد مستوياتها، وفي اكتساب مزيد من الغموض، كلما تقدّمت صفحاتها، على وجه الخصوص حين يعمد كويتزي إلى التركيز على قضية الرقص، معتبرا أنه "الجبْر الكوني" والحكمة العليا وقد سقطا علينا من السماء.
بيد أن العودة إلى الواقع ستكون قاسية جدا، وعنيفة، على الطفل دافيد، حين ستجبره الأحداث أن يكون شاهداً على وقوع جريمة قتل. "لماذا يكون البقاءُ على قيد الحياة أهمّ من كل شيء؟"، يسأل دافيد حائرا والده بالتبنّي، فيشعر ذاك بالبلبلة والارتباك، منتهياً إلى أن أفضل مثال لابنه هو ولا ريب دونكيشوت، ذلك "المجنون العجوز غير المؤذي"...
عند نزولهما من السفينة، يتجه الاثنان إلى مخيّم لاجئين، أقيم على حدود بلادٍ لا نعرف اسمها أو ماهيتها. في البلاد الجديدة تلك، على الاثنين أن يعيدا ابتكار هويةٍ لهما، أن يتعلّما اللغة الإسبانية، ويتكيّفا مع الواقع الجديد، الوعر والقاسي. "نحن نصل هنا مغسولين من ماضينا. نبدأ بلوحٍ لا كتابة عليه، بلوح فارغ تماما"، يقول سيمون الذي سيجد عملا، حمّالا على رصيف أحد الموانئ، إلى أن يلتقي مصادفةً بامرأة هي إيناس الغامضة، فيقترح عليها أن تكون أمّا بديلة للصغير دافيد، وتقبل إيناس.
هذه باختصار قصة "طفولة يسوع" التي تبقى معظم معانيها منغلقةً على القارئ، وإن كان جليّا أنها حكاية عن الاقتلاع من الجذور والهوية الضائعة ومصائر المهاجرين، في عالمٍ فقد كلّ معالمه.
في الرواية الثانية، "تربية يسوع"، وهي تتمة للأولى، ها إن العائلة التي تذكّر بالعائلة المقدّسة (يوسف ومريم ويسوع)، تقع ضحية مساءلة السلطات المحلية وملاحقاتها، لأنها رفضت تسجيل ابنها في المدرسة، مفضّلة تربيته في البيت، وتعليمه مغامرات "دونكيشوت". وهو ما سيضطر العائلة إلى سلوك طريق المنفى من جديد، بصحبة الكلب بوليفار، متجهةً إلى بلدة إستريللا، حيث تختلط بمجموعات العمّال المزارعين المقيمين فيها.
يتعرّف دافيد إلى أهل القرية شيئا فشيئا، ويعتاد الحياة في ما بينهم، مكتشفا عالم الطبيعة، رافضا الانصياع لما يفرضه عليه الكبار من قوانين وقواعد، ومزدادا نضجا وتمرّدا واستقلالية. "هو لا يريد أن يكون مثلنا، قلقا على المستقبل. هو يريد أن يكون حرّا"، تقول إيناس مدافعة عن ابنها، فيجيبها سيمون: "أنا لا أسيّر حياته، ولا أدّعي إعطاءه النصائح حتى. الحقيقة أنه ينهكنا ويتصرّف كجرّافة. لقد دهسنا إلى درجة أننا تسطّحنا، وما عدنا نُظهر أية مقاومة".
بيد أن الشيء الوحيد الذي يقبل الولد المتمرّد الانصياع له هو التسجيل في مدرسة الرقص التابعة للبلدة، حيث تعمل راقصة الباليه الجميلة، آنا المجدلية، وزوجها عاشق الموسيقى، على تربية نفوس الأطفال من خلال تعليمهم الموسيقى. الهدف من ذلك، يقول الزوجان، هو "توجيه تلاميذنا وأخذهم في اتجاه الانسجام والتناغم مع الكون"، بما أن الأخير هو أجمل تصاميم الرقص على الإطلاق، حيث يقيم "علمُ الأرقام والنجوم".
هكذا تمضي الرواية في تغذية ألغازها وأبعادها الفلسفية وتعدد مستوياتها، وفي اكتساب مزيد من الغموض، كلما تقدّمت صفحاتها، على وجه الخصوص حين يعمد كويتزي إلى التركيز على قضية الرقص، معتبرا أنه "الجبْر الكوني" والحكمة العليا وقد سقطا علينا من السماء.
بيد أن العودة إلى الواقع ستكون قاسية جدا، وعنيفة، على الطفل دافيد، حين ستجبره الأحداث أن يكون شاهداً على وقوع جريمة قتل. "لماذا يكون البقاءُ على قيد الحياة أهمّ من كل شيء؟"، يسأل دافيد حائرا والده بالتبنّي، فيشعر ذاك بالبلبلة والارتباك، منتهياً إلى أن أفضل مثال لابنه هو ولا ريب دونكيشوت، ذلك "المجنون العجوز غير المؤذي"...