لا يمكن لأحدٍ الشك بأنّ الثورة السوريّة من أكثر الثورات العربية إراقةً للدماء، وأكثرها إشكاليّةً في فرزها للإيديولوجيّات السلفيّة، فتاريخ الثورة بعد 29 يونيو/حزيران 2014، يختلف عن تاريخها قبل ذلك، إذ سيسجّل التاريخ أنّ الخلافة الإسلاميّة عادت بعد ما يقارب قرناً على انهيارها، من أرض الفرات، من داخل محافظة الرقّة المسبيّة، الرقّة التي كانت أولى المحافظات المحررة من ديكتاتوريّة الأسد؛ وآخرها، قبل أن يسيطر عليها تنظيم "الدولة الإسلامية" ويعلنها عاصمة الخلافة.
هكذا تماماً انكسرت أحلام السوريين، ولنعترف بأنّها كانت مكسورةً منذ البداية، منذ حصار درعا في أبريل/نيسان 2011، واختطاف المقدّم حسين هرموش، الذي أسّس حركة الضبّاط الأحرار في مدينة الرستن في ريف حمص، من إقليم هاتاي التركي في 29 أغسطس/آب 2011، في تلك الأيام كان يطمح حسين هرموش، بتشكيل مجلسٍ عسكريّ، يشبه في بنيته العسكريّة، حركة الضبّاط الأحرار التي تشكّلت في مصر عام 1952، لكنّه اختطف، واختطفت معه أحلام السوريّين؛ منذ تلك اللحظة بدأت الانكسارات، ونزيف الدم، الذي عُقِدَت معه المبادرات، وطُلِب من الجميع الجلوس على طاولة الحوار. اتُّهمت الثورة بالطائفيّة، قُتل الكثير، ولم يتغيّر شيء، بقي المطالبون بالديمقراطية، ومنظّمو المظاهرات، وناشطو المجتمع المدني، والإعلاميّون، يطالبون الأسد، وديكتاتوريّة البعث بالرحيل، وبقي الأسد الابن، والشقيق، والعم، سيّد قصر المهاجرين، وفرض على وسائل الإعلام العالمية أن تصف ما يحدث في سورية بـ"الحرب الأهلية"، وقالت الأمم المتحدة في أحد بياناتها بأنّ "معدّلات نزوح اللاجئين السوريّين وصلت إلى معدّلات لم يشهدها العالم منذ أعمال الإبادة الجماعيّة في رواندا عام 1994"، وأصبحنا من الدول الأكثر خطراً في العالم.
وهكذا تتالت انكسارات الثورة السوريّة، وكان عامها الرابع، عاماً مفصليّاً في تاريخها، ففي بداية مايو/أيار 2014، استعاد النظام مدينة حمص، عاصمة الثورة السوريّة، بعد حصارٍ يقارب 600 يوم، وأعلن كلٌّ من: حزب الله، الحرس الثوري الإيراني، أبو الفضل العباس، الأوروبيّون، الأفريقيّون، الباكستانيّون، الأفغان، والجهادي جون "سفاح الدولة الإسلاميّة"، تواجدهم بشكلٍ رسميٍّ في سورية، وسورية مازالت تقاوم مع كتلتها الوطنيّة، التي وقفت في وجه مخططات التقسيم ما بين الحرب العالميّة الأولى، والحرب العالميّة الثانية، واتفاقيّة سايكس – بيكو.
ومن ثمّ، وفي نهاية يونيو/ حزيران 2014، تراجع مسار الثورة السورية قرناً كاملاً إلى الوراء، انهارت أحلام المجتمع المدني، والقوى الديمقراطيّة، انهارت البنى التحتيّة، انهارت سورية كاملةً، مع إعلان تنظيم "الدولة الإسلامية" عن قيام الخلافة الإسلاميّة من داخل سورية، وبدأت وسائل التواصل الاجتماعيّ تصدّر للحرب الأهليّة في سورية، متجاهلةً ورشات المجتمع المدني المكوكيّة، المدعومة من قبل ما يُعرف "المنظمّات المانحة"، وإلى جانب صورة "أبو بكر البغدادي"، وساعته التي حار النشطاء في نوعها، تصدّرت الرؤوس المقطوعة فيديوهات اليوتيوب، النفط شكّل أزمةً عالميّة، واللاجئون تفرّقوا بين غريقٍ، ومصابٍ، وباحثٍ عن وثيقة سفر، وبدء النزوح الفعلي، ذلك الفعل الذي انتقم من السوريين مرّةً ثانية، في الأولى انتقم منهم في مجازر حماه 1982، وبقي الأسد الأب رئيساً للبلاد، وفي المرّة الثانية انتقم منهم بالطيران الحربيّ، والبراميل المتفجّرة، والسكاكين الحادة، وبقي الأسد الابن رئيساً للمناطق التي يسيطر عليها، بدعمٍ من إيران.
ثمّ جاء إعلان "جبهة النصرة" مع قائدها "أبو محمد الجولاني"، إمارة الشام، الأرض التي لم تكن تبحث عن إمارة، إنما كانت تبحث عن دولة، يتقاسمها الجميع، فكانت النتيجة ظهور تنظيم "خراسان" و"المهاجرين والأنصار"، وظهر قطع رؤوس "النشطاء المرتدين" بعد اختطاف "الدولة الإسلامية" لهم، حُرق الكساسبة داخل قفص، أُعجب الجميع بإصدارات "تنظيم الدولة" المرئيّة، وتصميم مجلة "دابق"، ومازالت سورية مستمّرة في مقاومة مسار مستقبلها المجهول.
الآن، وبعد أربع سنوات، لربّما تغيّر شيء، أو لنكن أكثر صدقاً، تغيّرت سورية، وعادت إلى ما قبل 1914، عاد الصراع بين دولة دمشق، ودولة حلب، عادت التجزئة، والخلافة، والتهجير، والانتقام، والعشائرية، اليوم عاد كلّ شيء إلى سابق عهده، عادت سورية مع بشار الأسد وحلفائه من جهة، وتنظيم "الدولة الإسلامية"، و"جبهة النصرة" من جهة أخرى، إلى حادثة السقيفة، وبينما ينتظر الجميع اسم الخليفة الجديد، مازال هناك من يحلم بدولةٍ جديدة، بحقوقٍ دستورية، مازال هناك من يرفض الخروج، منتظراً المستقبل الذي كان يبحث عنه، ولذلك سورية ستنتصر.
(سورية)