19 نوفمبر 2024
كيف يدبّر المغرب وتونس الوضع في الجزائر؟
قد يكون الحياد الذي تبديه تونس والمغرب إزاء الأزمة الجزائرية، احتراماً لعدم التدخل في شؤون الشقيقة الكبرى للبلدين، لكنه أيضا تعبيرٌ عن قلقٍ صامتٍ من تطورات بلادٍ على تماسٍّ كبير معهما. كان الموقف التونسي قد تم التعبير عنه، مع انطلاق الاحتجاجات في نهاية فبراير/ شباط الماضي، إذ خص الرئيس التونسي، الباجي قايد السبسي، الأحداث بتعبيرٍ واضحٍ لا غبار عليه، يعرب فيه عن أن الشعب الجزائري حر في التعبير عن رأيه في الحكم، كما يشاء، باعتبار أن لكل بلد قواعد عمل، "ولا حق لي في تقديم الدروس لأي كان". وقد يكون في تقدير الموقف الذي قام به السبسي استمرار للمواقف التي اعتادت عليها القيادة التونسية إزاء تطورات الجزائر منذ الاستقلال، وقد اعتادت على ذلك حقاً. والواقع أن الجارين يقيمان علاقاتٍ متينةً، ببعديها الاقتصادي والأمني، والحدود التي تمتد على أزيد من ألف كيلومتر، هي حدود تماسّ ضرورية لبلاد ثورة الياسمين، باعتبار أنها ما زالت تحت حالة الاستثناء التي أعلنتها البلاد منذ أربع سنوات بفعل الهجمات الإرهابية. بالتالي، كل انجراف حاد للمعادلة السياسية الجزائرية قد تكون له عواقب على الجارة تونس، وعواقب حادّة، ذات طبيعة مركبة، اقتصاديا وإنسانيا وأمنيا. يضاف إلى ذلك أن الجارة الكبرى الأخرى على شرقها، أي ليبيا، تعيش وضعا صعبا، يحمل تهديداتٍ لا تُحتمل في حال زادت الحدّة، وأكثر من ذلك، فإنه يضع تونس بين كماشتين، قويتين، ويصعب تدبير تطوراتهما، فالبلاد لا يمكنها أن تتحمل وجودها بين دولتين كبيرتين، تعيشان أوضاعا استثنائية، أو محفوفة بالشك والتوترات.
إلى ذلك، تبقى تونس حالة مدرسية بالنسبة للانتقال الجارف، والقوي، من نظام جامد إلى آخر يخرج من رحم الانتقال الديمقراطي. وقد يرى الجزائريون في التجربة التونسية امتحانا لقدرة المكونات السياسية على إيجاد انتقالٍ من صلب رهان القوة. فالجزائر التي يحتل الجيش فيها مكانة قطب الرحى، على الرغم من محاولات الرئيس عبدالعزيز بوتفليقة إضعاف قوته
التقريرية، وتوزيع قوته على أسلاك أخرى، كالأمن والدرك الوطني، قد تقرأ في تدخل الجيش لحماية المظاهرات من جهة، والقيام بدور الحكم، ووقف أي نزوعٍ لقمع المظاهرات من جهة ثانية، درسا تونسيا، فالوضع الذي دفع الجيش التونسي إلى أن يسهّل رحيل بن علي قد يكون له شبيه جزائري في ذلك، فالجميع يذكر أن الجيش الوطني التونسي رفض أوامر الرئيس بمشاركته في مواجهة الاحتجاجات، إلى جانب قوات الأمن، وكان رفض قائد الجيش، رشيد عمار، أوامر بن علي بمثابة نهايةٍ لحكم الأخير.
في التطبيق المحلي للنموذج العسكري التونسي، إلى حد الساعة، هناك دعوة صريحة من الجيش إلى تفعيل المادة 102 من الدستور الجزائري، بدعوة من رئيس أركان الجيش الجزائري، قايد صالح. وهي قراءة خاصة، يميل كثيرون في الشارع، وفي المراكز المنتجة للقرار وللفهم، إلى كونها دعوة إلى خلافة سياسية، أكثر منها تدعيما للانتقال الديمقراطي، كما وقع في بلدان الثورات السابقة. غير أن دعوة قايد صالح دليل على أين يقيم القرار ومن يملكه. وهنا نعود إلى تصريح الرئيس التونسي الذي نهى نفسه عن "إعطاء دروسٍ لأي كان". وبالتالي، هو لا يرى تبريرا لتقديم نموذج تونسي للأزمة الجزائرية.
وبالنسبة للمغرب، كان وزير الخارجية، ناصر بوريطة، صريحا في ابتعاد الجارة الغربية للجزائر، عن التدخل في شؤون البلاد. وفي السياق الحذر نفسه، أكّدت السلطات المغربية أن موقفها هو "عدم التدخل" في الشؤون الداخلية للجزائر. وقال بوريطة إن "المملكة المغربية قرّرت اتخاذ موقف بعدم التدخل في التطورات الأخيرة في الجزائر، وعدم إصدار أي تعليق حول الموضوع"، وأضاف "ليس للمغرب أن يتدخل في الوضع الداخلي". والحال أن المغرب موجود في صلب الديناميكية الحالية منذ بدايتها، وبشكلٍ مفارقٍ للغاية، يتراوح بين الجدية العدائية والسخرية، فقد رفع متظاهرون، في بداية الحراك، شعاراتٍ تدعو بوتفليقة "المروكي"، (المغربي) إلى الرحيل. كما أن جنسية الشخص المنتظر توليه الرئاسة بالنيابة، في حين تم تفعيل بند شغور المنصب الرئاسي، هو عبد القادر بنصالح، وما زالت جنسيته المغربية محط نقاش عام وكبير، وهي قضيةٌ تعود إلى الواجهة، وتشعل السجال بين من يعتبر أنه لم يحصل على الجنسية الجزائرية إلا في سنة 1964، ومن يعتبره جزائريا منذ الخليقة! وهو ما يدل
على ترابط السياسي والاستراتيجي بالعاطفي في الأمور، لكن الوضع الأكثر جدارة هو نأي المغرب بنفسه عن التدخل، كي لا يكون مطيةً لتوجيه النظر بعيدا عن حقيقة الأمر، فقد كانت هناك محاولاتٌ، منذ البداية، تريد أن تنسب إلى المغرب ما بدأ يظهر في الجزائر من تحرّكات، وهو الأمر الذي لم يعمر طويلا، باعتبار أن القضية كانت تقليديةً في البحث عن "عدو خارجي جاهز للفت الأنظار وتحويلها عن حقيقة الوضع". وهو أمر تم تجاوزه الآن، باعتبار إقرار رئيس الأركان الجزائري بالوضع في البلاد، و"نضج" التظاهر السلمي الجزائري.
في الوضع الراهن، الحدود بين البلدين مغلقة، والمسؤولون الأمنيون الكبار لا يدعون الفرصة تمر من دون الدعوة إلى رفع مستوى التعاون الأمني لمواجهة الإرهاب، بل التعبير عن الأسف بأن العلاقات الحالية تعطل التعاون الذي صار ضروريا بين البلدين، لا سيما في محاربة الإرهاب، والجريمة المنظمة، والتعامل مع تقلبات الأوضاع في ليبيا وفي العراق وسورية... إلخ، غير أن الجميع يقرّ بأن التغيرات في الجزائر لا يمكن أن تمر بدون تأثير على وضعية العلاقات بين البلدين. ويأمل المغاربة في انتقال ديمقراطي سلس وسلمي، يسمح بقراءةٍ أكثر واقعية وأكثر نضجا للمحيط الإقليمي. وغالبا ما يعبر المغاربة عن ذلك بعيداً عن القنوات الديبلوماسية، أو القنوات الرسمية القريبة من مركز القرار، أيا كان مصدره.
مع ذلك، لم يفوّت المغاربة الفرصة لالتقاط المفارقات في الديبلوماسية الجزائرية، على الرغم من الوضع الصعب والغليان في الجزائر، إذ تحرّكت الدبلوماسية الجزائرية، مرتين على الأقل، خلال هذه المدة، تحت شعاراتٍ يعتبرها المغرب مناهضةً لوحدته وبلاده. الأولى في دفاع نائب رئيس الحكومة ووزير الخارجية، رمطان العمامرة، في جولة جنيف الثانية بشأن الصحراء، عن "حق تقرير مصير" الصحراويين الداعين إلى الانفصال عن المغرب، وهو ما دفع كثيرين إلى مطالبته بتقرير مصير الشعب الجزائري أولاً. والمرة الثانية في لقاء بريتوريا الذي حضرته الجزائر إلى جانب جنوب أفريقيا، و14 بلداً آخر، من أجل توريط الاتحاد الأفريقي في الملف، بعيدا عن مقرّرات الأمم المتحدة، وتوليها الحصري للموضوع. وفي الوقت نفسه، لا يخفى عن الجميع أن هناك تتبعا يقظا لكل تطورات الوضع، لسببين رئيسيين على الأقل، وهما
من المخاطر التي قد تسبّب أزمة مستفحلة لا قدر الله، والتي قد تؤدي إلى موجة هجرة إلى الحدود المغربية، كما وقع في بلدان عديدة. وتتعلق النقطة الثانية بطبيعة الحال بالصحراء، والتي قد تكون نقطة ارتكاز لراديكاليةٍ أبعد في التعامل مع المغرب بالنسبة لجزء من المربع الحاكم في الجزائر.
إلى جانب ذلك، قد يتعثر الحوار، والموائد الديبلوماسية المطلوبة اليوم في حل النزاع، تحت مظلة الأمم المتحدة، فالمرجح أن تميل الأوضاع إلى الجمود، وخصوصاً أن قرار مجلس الأمن الدولي 2440، الخاص بالنزاع، قد اعتبر الجزائر دولةً معنيةً بالحل، كما حال موريتانيا، إلى جانب المغرب والجبهة الانفصالية. البلدان معاً، تونس والمغرب، مطالبان بتدبير ملف الجزائر، لاعتباراتٍ تتعلق بتشابك الأوضاع بين بلدان المغرب الكبير الثلاثة، ولاعتباراتٍ إقليمية، قد يجعل من الصعب على المنطقة برمتها تحمل بؤرتين اثنتين لنزاع حارق، في ليبيا والجزائر، إذا تطورت الأوضاع بشكل غير محمود... وتعبر عن القلق نفسه دول الساحل، لا سيما النيجر ومالي وموريتانيا، من تطورات الوضع الصعب، والذي قد يفتح الحدود واسعةً أمام مزيد من التوترات. وبهدا المعنى، صار الانتقال الديمقراطي السلس، والسلمي أيضاً، ضرورة إقليمية، في شمال أفريقيا وفي الساحل.
في التطبيق المحلي للنموذج العسكري التونسي، إلى حد الساعة، هناك دعوة صريحة من الجيش إلى تفعيل المادة 102 من الدستور الجزائري، بدعوة من رئيس أركان الجيش الجزائري، قايد صالح. وهي قراءة خاصة، يميل كثيرون في الشارع، وفي المراكز المنتجة للقرار وللفهم، إلى كونها دعوة إلى خلافة سياسية، أكثر منها تدعيما للانتقال الديمقراطي، كما وقع في بلدان الثورات السابقة. غير أن دعوة قايد صالح دليل على أين يقيم القرار ومن يملكه. وهنا نعود إلى تصريح الرئيس التونسي الذي نهى نفسه عن "إعطاء دروسٍ لأي كان". وبالتالي، هو لا يرى تبريرا لتقديم نموذج تونسي للأزمة الجزائرية.
وبالنسبة للمغرب، كان وزير الخارجية، ناصر بوريطة، صريحا في ابتعاد الجارة الغربية للجزائر، عن التدخل في شؤون البلاد. وفي السياق الحذر نفسه، أكّدت السلطات المغربية أن موقفها هو "عدم التدخل" في الشؤون الداخلية للجزائر. وقال بوريطة إن "المملكة المغربية قرّرت اتخاذ موقف بعدم التدخل في التطورات الأخيرة في الجزائر، وعدم إصدار أي تعليق حول الموضوع"، وأضاف "ليس للمغرب أن يتدخل في الوضع الداخلي". والحال أن المغرب موجود في صلب الديناميكية الحالية منذ بدايتها، وبشكلٍ مفارقٍ للغاية، يتراوح بين الجدية العدائية والسخرية، فقد رفع متظاهرون، في بداية الحراك، شعاراتٍ تدعو بوتفليقة "المروكي"، (المغربي) إلى الرحيل. كما أن جنسية الشخص المنتظر توليه الرئاسة بالنيابة، في حين تم تفعيل بند شغور المنصب الرئاسي، هو عبد القادر بنصالح، وما زالت جنسيته المغربية محط نقاش عام وكبير، وهي قضيةٌ تعود إلى الواجهة، وتشعل السجال بين من يعتبر أنه لم يحصل على الجنسية الجزائرية إلا في سنة 1964، ومن يعتبره جزائريا منذ الخليقة! وهو ما يدل
في الوضع الراهن، الحدود بين البلدين مغلقة، والمسؤولون الأمنيون الكبار لا يدعون الفرصة تمر من دون الدعوة إلى رفع مستوى التعاون الأمني لمواجهة الإرهاب، بل التعبير عن الأسف بأن العلاقات الحالية تعطل التعاون الذي صار ضروريا بين البلدين، لا سيما في محاربة الإرهاب، والجريمة المنظمة، والتعامل مع تقلبات الأوضاع في ليبيا وفي العراق وسورية... إلخ، غير أن الجميع يقرّ بأن التغيرات في الجزائر لا يمكن أن تمر بدون تأثير على وضعية العلاقات بين البلدين. ويأمل المغاربة في انتقال ديمقراطي سلس وسلمي، يسمح بقراءةٍ أكثر واقعية وأكثر نضجا للمحيط الإقليمي. وغالبا ما يعبر المغاربة عن ذلك بعيداً عن القنوات الديبلوماسية، أو القنوات الرسمية القريبة من مركز القرار، أيا كان مصدره.
مع ذلك، لم يفوّت المغاربة الفرصة لالتقاط المفارقات في الديبلوماسية الجزائرية، على الرغم من الوضع الصعب والغليان في الجزائر، إذ تحرّكت الدبلوماسية الجزائرية، مرتين على الأقل، خلال هذه المدة، تحت شعاراتٍ يعتبرها المغرب مناهضةً لوحدته وبلاده. الأولى في دفاع نائب رئيس الحكومة ووزير الخارجية، رمطان العمامرة، في جولة جنيف الثانية بشأن الصحراء، عن "حق تقرير مصير" الصحراويين الداعين إلى الانفصال عن المغرب، وهو ما دفع كثيرين إلى مطالبته بتقرير مصير الشعب الجزائري أولاً. والمرة الثانية في لقاء بريتوريا الذي حضرته الجزائر إلى جانب جنوب أفريقيا، و14 بلداً آخر، من أجل توريط الاتحاد الأفريقي في الملف، بعيدا عن مقرّرات الأمم المتحدة، وتوليها الحصري للموضوع. وفي الوقت نفسه، لا يخفى عن الجميع أن هناك تتبعا يقظا لكل تطورات الوضع، لسببين رئيسيين على الأقل، وهما
إلى جانب ذلك، قد يتعثر الحوار، والموائد الديبلوماسية المطلوبة اليوم في حل النزاع، تحت مظلة الأمم المتحدة، فالمرجح أن تميل الأوضاع إلى الجمود، وخصوصاً أن قرار مجلس الأمن الدولي 2440، الخاص بالنزاع، قد اعتبر الجزائر دولةً معنيةً بالحل، كما حال موريتانيا، إلى جانب المغرب والجبهة الانفصالية. البلدان معاً، تونس والمغرب، مطالبان بتدبير ملف الجزائر، لاعتباراتٍ تتعلق بتشابك الأوضاع بين بلدان المغرب الكبير الثلاثة، ولاعتباراتٍ إقليمية، قد يجعل من الصعب على المنطقة برمتها تحمل بؤرتين اثنتين لنزاع حارق، في ليبيا والجزائر، إذا تطورت الأوضاع بشكل غير محمود... وتعبر عن القلق نفسه دول الساحل، لا سيما النيجر ومالي وموريتانيا، من تطورات الوضع الصعب، والذي قد يفتح الحدود واسعةً أمام مزيد من التوترات. وبهدا المعنى، صار الانتقال الديمقراطي السلس، والسلمي أيضاً، ضرورة إقليمية، في شمال أفريقيا وفي الساحل.