كي لا يكون الانتماء انتقاصاً
الانشغال منصبٌّ على نشاطات الثورات والحروب والقصف وحملة السلاح، وفوز جماعة وسحق جماعة، تراجع هؤلاء وتقدم أولئك. في حماس ذكوري، يكاد يعم العالم كله. لكن أرضه في بلاد الشرق العربي، بأنظمتها التي تضرب السلام أحياناً للآخر، وتقصف شعوبها.
المواطن الذي لم يلائم فهمه هذه الأحوال، يمارس فسحته بأعلى درجات المتابعة، وبأقل قدر من المساهمة، أو بمساهمات تدمجه مع العادي اليومي. لكن المواطن السوري الذي عبر بآلام ونيران سنوات أربع، وقبلها عقود من الاستلاب، لا يستطيع أن يمنع نفسه من انتظار تحسن يكافئ تجربته. مواجهته نفسه باعتبار ما عبر قد عبر، وعليه أن يتلاءم مع واقعه يوماً بيوم، أين يذهب باندفاعات الغضب بألا يوجد جواب، إلا أن هذه الأحداث تقع في كل الأزمان.
الفرق أن للبارحة البعيدة عدو ما. لكن، بعد كل تلك الفظائع، صار من المستحيل العثور على عدو أو صديق يكافئ تلك الشدائد، ويقرأ المواطن حاله، كأن الدول تعقد علاقاته، وتفك معاهداتها على عاتقه. هكذا يُعثَر على أبطال لا ينقصهم شيء. وهذه الصعوبة الطامحة، إن صح التعبير، لا تجد نداً، مثلاً، بما قد يلجأ إليه من حب انتقامٍ، أو رغبة بفضح أو محاكمات أو معاهدات أو ادعاء انغماس بمشكلات وتفاصيل يومية مفتعلة. فإن كان، كما يقال، رب للعباد، لن تقبل ربوبيّتُه عيش العباد بالادعاء.
الافتخار الذكوري، والنشاط الذي يتبعه، يأتيان من قوة السلاح التي يحملها شخص آخر. أي لا يوجد نشاط ولا افتخار من دون هذا الشخص الذي يحمل سلاحاً، وربما يقطع طريقاً ويقتل أبرياء، ويعتدي على نساء، ويزوج بناتاً في سن الثامنة. هذا العنصر الحي الذي تقوده غرائزه يقود هذا المثقف أو السياسي، أي أنه يتقدم عليه، فإن اعتُبِر جهادُه جهاداً عن الناشط أو السياسي أو المثقف، أي أنه يتقدم عنه، لا يتقدم عليه، فليكفّ، إذن، هذا المثقف أو السياسي عن الهتاف للثورات ضد العبودية.
يتم تداول الثقة بواقع التحارب بشرف جماعي، وبشكل يكاد يكون حربياً، متماثلاً. الثقة بهذا المنهاج هي المشترك في أعلى الجماعات، والمشترك المتنوع في تطبيقاته أدناها. والرجل القادر على نقد هذا، تقوده مصالحه ومخاوفه، أي أنه يعيش العبودية مضاعفة. ولم ينجح في إيجاد متسع للذة النقد، وحرية القول والفعل، بوسعٍ لا يتعلق بالمخاوف أو المصالح، خدمة لواقع التحارب، واستقراراً على قراءة الحال، تنشيطاً لها، أو نجاة منها.
هذه التحولات هي العملية التي يجب أن يتفاعل المواطن معها. مع من؟ وضد من؟
فلسفة الإنسان الذي لم يلائمه واقع الاستسهال في الإسراع إلى الحروب هي العمل على الذات، تواصلاً مع الآخر، بجهد يومي، بقدر ما يمكن أن يربّح الآخر المراقب ويلهمه، بقدر ما يجذر وجودنا ويعززه، ويجعل الوقت دراسة ومعرفة للذات، إلى أن يتقن الآخر أدواتنا ويتعامل بها.
وإن إفساح هذا يكون مع الوقت، وعبر سبل الصحيح. ويجب أن نعثر على وسيلةٍ، تكف الآخر عن استلهام صعوبات أوضاعنا يومياً، لن تكون قوانين الوجود للأكثر التهاماً، هذا لا يعتقد في القرن الواحد والعشرين، إلا إذا كان العالم جميعه ماضٍ إلى انقلابات جذرية، لا ينفذ منها إلا من اعتنى وبذل جهداً صادقاً.
لعل السؤال الذي يطرح، بعد اجتماع القمة العربية، أي شكل من الأنظمة يلائم الأكثرية الجامعة، بحيث تنجح في تأمين شعوبها، وتكون غير قابلة للتحارب مع الخارج. هذا التفوق إن تحقق، فإنه يكون مستحقاً لآلام سكان هذه البلاد التي عاشت الكثير.
في العالم، نظامان رئيسيان، تحققا خلال تجارب بلادنا التي شهدت حروباً وتهجيراً وسجوناً وفقراً. وإن كل حل للتخفيف من أعراض الحرب والتهجير والسجن والإفقار كان عبر الميل لهذا النظام ضد النظام الآخر، بما يمكن القول عنه، القاسم المشترك، فإن لم يفعل هذا، لن يستقر الحال. لكن هذا الميل كان يدعم هذا ويدعم ذاك الضد، ويثبتهما. ولعل هذه التبعية هي التي تكبرهما، أو تدخلهما في جذور ما تزرع، فتحصد نبتة لا بد أن تميل إلى جهة. ما يجب أن يظهر، بعد كل عملية خلق، إذا اعتبرنا أن التجارب الحالية عمل تطهيري خلاق، فإنه يجب أن تظهر خصوصية سكان تلك المناطق وأنظمة تقارب قبول الأكثرية التي لا تضطهد بعضها، ولا تضطهد غيرها، ليست مسلحة بوسائل قوى الاضطهاد والاستبداد.
والأكثرية هم كل سكان تلك البلاد التي لا يعتبر بينها أي أقلية، ولا تخلق ولا تكرس بينها أي أقلية، دينية أو عرقية، وتمايز قيمي. ولعل اللغة هي التي تفوز، اللغة العربية التي تحب سكان بلادها. فهل هذا يعادي، مثلاً، وجود لغات أخرى في المنطقة، كالعبرية والكردية! اللغة ثقافة وليست عصبية قومية، والثقافة دائماً جائعة لأكثر، وحاجتها الدائمة هي التي تؤمن الكثير. جوعها لثقافات أخرى ولغات أخرى يمد تلك الأخرى، ولا يضعفها، ولعل هذا النوع من العلاقات هي الأقل احتراباً، والأفضل فعلاً في إكثار الوجود، وبكل حقوق موجوداته.