كُفّوا أيديكم عن ليبيا
عندما تنقسم الشعوب على نفسها، ويتقاتل أبناؤها، قد تمر سنوات قبل الاعتراف، وربما إدراك، أن ما يفعلونه "حرب أهلية". وما تشهده ليبيا حالياً يقترب سريعاً من هذا الوضع. إذ لم يصل الليبيون بعد إلى حرب الكل ضد الكل. فللحرب الأهلية شروط ومقومات. الأهم منها خمسة: حدوث انقسام رأسي في المجتمع، يشمل القوى والتيارات ومكونات الحياة السياسية، ويشق المجتمع قطاعات ومجموعات متنافرة، سواء على أساس ديني أو مذهبي أو جغرافي أو طبقي، أو أي معرف طائفي بالمعنى الواسع. فتسود المجتمع ثقافة الإقصاء ونزع صفة "المواطنة" عن الآخر. ويجب أن يمتلك، على الأقل، بعض تلك المكونات سلاحاً أو غيره من أشكال القوة، وربما أدوات العنف. فإذا ما رأى المنقسمون أن وسائل الصراع السلمية لم تعد مجدية، يبدأ استخدام السلاح وأدوات القوة المتاحة. وهنا، تكون الحرب الأهلية قد بدأت، وتستعر بتوافر العامل المساعد، وهو الدعم الخارجي لبعض الأطراف المتقاتلة أو كلها.
هذا ما حدث في الحروب الأهلية المعروفة، سواء حملت هذا الاسم أو تم تجميلها. في الولايات المتحدة وإسبانيا ولبنان والصومال واليمن والسودان، وأخيراً في سورية ثم العراق. والواضح أن ليبيا على الطريق، لكنها لم تستكمل المراحل الخمس بعد. فالانقسام في ليبيا، حتى الآن، ليس مجتمعياً ولا شاملاً، فهو صراع على السلطة أكثر منه صراع داخل المجتمع على الهوية، أو حتى على الدولة. ولم يستنفد الليبيون بعد سبل الحلول السلمية من توافق جماعي إلى تنازلات طوعية متبادلة إلى التعايش الاضطراري. لذا، يبدو الأمر في ليبيا، حتى الآن، مجرد محاولات لفرض أمر واقع، وتجيير الأوضاع في اتجاه معين، استغلالاً لمرحلة السيولة السياسية والفراغ الأمني. بهدف إرساء أسس وقواعد للدولة الجديدة، التي لا تزال في طور التبلور، تصب في صالح هذا الطرف أو ذاك.
وهنا، يظهر الدور الخارجي في المشهد، ويكفي تأكيداً لأن ما يجري في ليبيا ليس بعد، حرباً أهلية بمقومات ذاتية، أنه لولا التدخلات الخارجية بأشكال متعددة، لما آلت الأمور إلى حد المعارك المسلحة بين الفرقاء الليبيين، ولما تحول شبح التقسيم خطراً حقيقياً يتهدد الدولة الليبية التي لم تكد تبدأ في التكون. بل إن الانقسام الحاصل في الساحة الليبية، بما فيه التنابذ السياسي، يُعزى، في جانبٍ كبيرٍ منه، إلى انتشار السلاح ورخاوة الدولة، وليس العكس. فانتشار السلاح بين أيدي الفصائل الثورية كان سبباً، في السنوات الثلاث الماضية، في تضييع هيبة الدولة وإهدار قراراتها. ثم في تعطيل عمل الحكومة، بل وإجبار المؤتمر الوطني العام على اتخاذ أو إلغاء قرارات. واليوم، أصبح في ليبيا سلطتان، كل منهما تتهم الأخرى بالانقلاب على إرادة الليبيين. وبعد أيام أو أسابيع، يكون في ليبيا برلمانان وحكومتان وعاصمتان. والشعب الليبي المفترى عليه تائه وممزق، وسط تلك الثنائية المفروضة عليه.
لم تنزلق ليبيا بعد إلى هوة حرب أهلية حقيقية، لكن استمرار التدخلات الخارجية، علناً أو خفية، كفيل بتجاوز خط الرجعة. وإذ تُنكر كل الأطراف أن لها دوراً تدخلياً في ليبيا، فالحل العاجل هو استدعاء الأمم المتحدة للإشراف على الوضع في ليبيا بكل جوانبه. فتتولى تنظيم انتخابات تأسيسية جديدة. وترسل قوات حفظ سلام دولية، ليست عربية ولا إقليمية، حتى تكون نزيهة ومحايدة. وبالتوازي مع هذين المسارين، تتولى المنظمة الأممية تشكيل وتدريب جيش وشرطة ليبيين وطنيين، بعيداً عن أي مرجعيات دينية أو فكرية أو جغرافية ضيقة. أما الأطراف والدول التي تزعم مساندة الشعب الليبي، فعليها فقط رفع أيديها عنه، إن أرادت، حقاً، إنقاذه من حرب أهلية.