لا عزاء للعربي في جمال خاشقجي
أسامة ربيع
صحافي وإعلامي سوري، مدير سابق في الإدارة الأوربية لوكالة رويترز. يعمل في مجالات نشر المحتوى العربي.
على الرغم من كل شيء، ليست الجريمة الوحشية لقتل الصحافي السعودي البارز جمال خاشقجي في قنصلية بلده في إسطنبول استثنائية، بل صفحة جديدة في سجل الجرائم المرتكبة بحقِّ الإنسان العربي، جريمة يومية تقع في دول عربية عديدة، وعلى الإنسان العربي اليوم أن يقيم العزاء ليس في جمال خاشقجي فحسب، بل في نفسه أولًا.
ولا يجب أن ننسى في خضمِّ الحديث عن المؤامرة التي حيكت لقتل جمال خاشقجي، والألاعيب السياسية والإعلامية بعد الجريمة، أنَّ الطرف الأساسي في الموضوع، وهو الإنسان العربي، ظلَّ مغيَّبا إلى حدٍّ بعيد.
في الأصل، لم تعُد قيمة الإنسان العربي عند الحكومات العربية، منذ سنوات بعيدة، تتعدّى ثمن رصاصة في أحسن الأحوال، على حدِّ تعبير مسؤول عربي لأحد أعضاء مجلس الشعب في بلده، ومن يهمّه اليوم حقًّا مصير أبناء اليمن، ومن قبلهم العراقيون والسوريون والسودانيون والمصريون والليبيون والفلسطينيون؟.. والقائمة لا تنتهي.
وكما فجَّر التونسي محمد البوعزيزي صرخة قهر فتحت مكامن الحرية والرغبة الملحّة في التغيير التي امتدت عبر الشعوب العربية، وسرعان ما جرفتها قوى معاداة الحرية والديمقراطية، ودفعت الإنسان العربي نحو مزيد من القهر والتشرذم، فهل سيدرك الإنسان العربي أخيرًا حجم مأساته، ويوقن أنَّ ما يريده مسؤولو بلاده ليس سوى إبقائه "معلَّقًا من عرقوبه"، وتركه وحيدًا لمصير بائس من دون أدنى اهتمام.
لعلَّ هذه الجريمة الوحشية ستكون رسالة فاضحة أخرى أمام الإنسان العربي، فيدرك قيمته
الحقَّة ويبدأ، إن لم يكن قد فعل، في إيجاد السبل الكفيلة باسترداد قيمته وكرامته. لا أحد منَّا معفيٌّ من هذه المهمَّة، إذ يندر أن يدّعي أحدٌ أنه كريم حقًّا في وطنه، أو في المكان الذي يقيم فيه، سواء كان مؤيدًا أو مستفيدًا من نظام الحكم في بلده، أم معارضًا له، أم حتى من الفئة الصامتة.
تُرى، هل سيوقن الإنسان العربي أنَّ المسؤولين يديرون مقدّرات البلد بأسلوب العصابة، فهم يستخفون بحياته، ولا يتصرفون لمصلحته أولًا، ولا لمصلحة الوطن أخيرًا، بل لأهوائهم ومطامعهم الشخصية. وفي أحوالٍ غير قليلة، يتصرّفون استجابةً لمؤامراتٍ تحاك في غرف مغلقة مع جهات أقلَّ ما توصف به في العلن أنها "عدوة الوطن"!
لعلَّه بعد هذه الجريمة سيُدرك أيضًا أنه لا يمكنه الاعتماد على دعمٍ خارجي، لتحسين حاضره ومستقبله، لأنَّ من يدعمه باليمين سيستغله باليسار، وأنَّ كلَّ ما يجده أمامه من منظماتٍ حقوقيةٍ وإنسانيةٍ موجودة، في غالبيتها الساحقة، ديكور لاستكمال مسرحية تلهيته وتبعيته، ومخطط تخبطه العبثي الذي تفرضه عصابة مسؤولي بلاده.
وسيرى هذا الإنسان دول العالم "الديمقراطي" التي تنادي باحترام حقوق الإنسان وهي تتقاسم غنيمة هذه الجريمة النكراء مع بعضها بعضا من وراء ستار لقاء لفلفة الفضيحة، وغضِّ الطرف عنها، ثمَّ تناسيها في عملية إعادة ترتيب شكلية لهيكلية عصابة المسؤولين، إذا حصلت على المكاسب المادية أو المعنوية التي تريدها من غنيمة طيِّ صفحة هذه الجريمة.
صارت هذه النظرة القاتمة واقعية جدًّا في أيامنا هذه، وكم يتمنّى المرء ألا تكون كذلك. ولكن، لا شيء يشي بواقع أفضل، فهل سيدرك الإنسان العربي عمق مأساته، ويبدأ في إعادة ترتيب قيمه وأولوياته؟ صار الأمر ملحًّا ووجوديًّا بالنسبة له، بعد أن وصل به الحال إلى الدرك الأسفل.
ما الخطوات التي على الإنسان اتخاذها، لكي ينال حقه ويحفظه؟ ثمَّة أطروحات عديدة في العالم العربي ظهرت، منذ بداية النصف الثاني من القرن العشرين، وقد أفرزتها أساسًا عصابات
الحكم نفسُها هنا وهناك، تحت مختلف الشعارات البرّاقة، وكانت غايتها ذرّ الرماد في الأعين، وإرساء التسلُّط على الإنسان، وإيهامه أنه بخير، وأنه أفضل حالًا من غيره في محاولةٍ دائمةٍ لكسب الوقت، من خلال التذرع بأنَّ الشعوب العربية غير مؤهلة للديمقراطية، وللتنعم بما تتمتع به الشعوب الأخرى من حقوق الإنسان. ولكنَّ ذلك كله لم يعُد يُجدي نفعًا اليوم، بعد الدلائل الفاضحة على تصرّف دولة ذات سيادة على غرار عصابة مافيوية، لا يردعها قانون إلهي أو بشري.
ويحار الإنسان العربي المتتبع صحافة بلده التي تتناول جريمة قتل جمال خاشقجي، فهي تتراوح من نظرية المؤامرة الكونية والكيدية الخليجية، وأيضًا الهستيريا الإعلامية للأجندات المعادية إلى ظواهر وجوب اتباع القطيع، وعدم التغريد خارج السرب وإعمال العقل، بل سخّرت هذه الصحافة قلمها لاجترار ما يردّده النظام المتورّط في هذه الجريمة. أين السلطة الخامسة للصحافة التي تتحرّى وتحلِّل، وتنشر الوعي، وتحاسب بالقلم والفكر؟ إنها صحافةٌ شريكةٌ في القتل أيضًا مثل الجزارين الذين اعتدوا على حرمة حياة هذا الإنسان.
دعونا إذًا نعترف، بعد أن تقطَّعت بنا الأسباب، أنه ما بقي لدينا من سبيل إلا أن يحرّر الإنسان العربي نفسه بنفسه، ويدرك أنه لا يجب عليه العزاء فقط في جمال خاشقجي، بل عليه العزاء في نفسه، ما دام يسمح بأن تتكرّر هذه الجريمة يوميًّا بحقه، وبحق مجتمعه.
ولا يجب أن ننسى في خضمِّ الحديث عن المؤامرة التي حيكت لقتل جمال خاشقجي، والألاعيب السياسية والإعلامية بعد الجريمة، أنَّ الطرف الأساسي في الموضوع، وهو الإنسان العربي، ظلَّ مغيَّبا إلى حدٍّ بعيد.
في الأصل، لم تعُد قيمة الإنسان العربي عند الحكومات العربية، منذ سنوات بعيدة، تتعدّى ثمن رصاصة في أحسن الأحوال، على حدِّ تعبير مسؤول عربي لأحد أعضاء مجلس الشعب في بلده، ومن يهمّه اليوم حقًّا مصير أبناء اليمن، ومن قبلهم العراقيون والسوريون والسودانيون والمصريون والليبيون والفلسطينيون؟.. والقائمة لا تنتهي.
وكما فجَّر التونسي محمد البوعزيزي صرخة قهر فتحت مكامن الحرية والرغبة الملحّة في التغيير التي امتدت عبر الشعوب العربية، وسرعان ما جرفتها قوى معاداة الحرية والديمقراطية، ودفعت الإنسان العربي نحو مزيد من القهر والتشرذم، فهل سيدرك الإنسان العربي أخيرًا حجم مأساته، ويوقن أنَّ ما يريده مسؤولو بلاده ليس سوى إبقائه "معلَّقًا من عرقوبه"، وتركه وحيدًا لمصير بائس من دون أدنى اهتمام.
لعلَّ هذه الجريمة الوحشية ستكون رسالة فاضحة أخرى أمام الإنسان العربي، فيدرك قيمته
تُرى، هل سيوقن الإنسان العربي أنَّ المسؤولين يديرون مقدّرات البلد بأسلوب العصابة، فهم يستخفون بحياته، ولا يتصرفون لمصلحته أولًا، ولا لمصلحة الوطن أخيرًا، بل لأهوائهم ومطامعهم الشخصية. وفي أحوالٍ غير قليلة، يتصرّفون استجابةً لمؤامراتٍ تحاك في غرف مغلقة مع جهات أقلَّ ما توصف به في العلن أنها "عدوة الوطن"!
لعلَّه بعد هذه الجريمة سيُدرك أيضًا أنه لا يمكنه الاعتماد على دعمٍ خارجي، لتحسين حاضره ومستقبله، لأنَّ من يدعمه باليمين سيستغله باليسار، وأنَّ كلَّ ما يجده أمامه من منظماتٍ حقوقيةٍ وإنسانيةٍ موجودة، في غالبيتها الساحقة، ديكور لاستكمال مسرحية تلهيته وتبعيته، ومخطط تخبطه العبثي الذي تفرضه عصابة مسؤولي بلاده.
وسيرى هذا الإنسان دول العالم "الديمقراطي" التي تنادي باحترام حقوق الإنسان وهي تتقاسم غنيمة هذه الجريمة النكراء مع بعضها بعضا من وراء ستار لقاء لفلفة الفضيحة، وغضِّ الطرف عنها، ثمَّ تناسيها في عملية إعادة ترتيب شكلية لهيكلية عصابة المسؤولين، إذا حصلت على المكاسب المادية أو المعنوية التي تريدها من غنيمة طيِّ صفحة هذه الجريمة.
صارت هذه النظرة القاتمة واقعية جدًّا في أيامنا هذه، وكم يتمنّى المرء ألا تكون كذلك. ولكن، لا شيء يشي بواقع أفضل، فهل سيدرك الإنسان العربي عمق مأساته، ويبدأ في إعادة ترتيب قيمه وأولوياته؟ صار الأمر ملحًّا ووجوديًّا بالنسبة له، بعد أن وصل به الحال إلى الدرك الأسفل.
ما الخطوات التي على الإنسان اتخاذها، لكي ينال حقه ويحفظه؟ ثمَّة أطروحات عديدة في العالم العربي ظهرت، منذ بداية النصف الثاني من القرن العشرين، وقد أفرزتها أساسًا عصابات
ويحار الإنسان العربي المتتبع صحافة بلده التي تتناول جريمة قتل جمال خاشقجي، فهي تتراوح من نظرية المؤامرة الكونية والكيدية الخليجية، وأيضًا الهستيريا الإعلامية للأجندات المعادية إلى ظواهر وجوب اتباع القطيع، وعدم التغريد خارج السرب وإعمال العقل، بل سخّرت هذه الصحافة قلمها لاجترار ما يردّده النظام المتورّط في هذه الجريمة. أين السلطة الخامسة للصحافة التي تتحرّى وتحلِّل، وتنشر الوعي، وتحاسب بالقلم والفكر؟ إنها صحافةٌ شريكةٌ في القتل أيضًا مثل الجزارين الذين اعتدوا على حرمة حياة هذا الإنسان.
دعونا إذًا نعترف، بعد أن تقطَّعت بنا الأسباب، أنه ما بقي لدينا من سبيل إلا أن يحرّر الإنسان العربي نفسه بنفسه، ويدرك أنه لا يجب عليه العزاء فقط في جمال خاشقجي، بل عليه العزاء في نفسه، ما دام يسمح بأن تتكرّر هذه الجريمة يوميًّا بحقه، وبحق مجتمعه.
دلالات
أسامة ربيع
صحافي وإعلامي سوري، مدير سابق في الإدارة الأوربية لوكالة رويترز. يعمل في مجالات نشر المحتوى العربي.
أسامة ربيع