03 اغسطس 2022
لبنان.. العنصرية ثم "محاكم التفتيش"
"صندوق الفرجة" يبدو التوصيف الواقعي والأدق لرئاسة ميشال عون التي شارفت على منتصفها. عادة يحتوي هذا الصندوق على مفاجآتٍ كثيرة، منها السارّة والمسلية، ومنها المزعجة، أما ولاية عون الذي صعد إلى الرئاسة على نغمة "التغيير والإصلاح" فقد حفلت بكل المفاجآت السيئة والصادمة لأبشع ممارسات السلطة وغطرستها، وخصوصا ما يتعلق بموضوع الحريات. أول خطوة كانت فرض قانون انتخابي طائفي فئوي وإلغائي يحصر التمثيل النيابي والسلطة بالأحزاب الطائفية، ويهمّش القوى والشخصيات المستقلة في بلد تعدّدي ومتنوع، أكثرية اللبنانيين فيه لا تنتمي إلى حزب، ولا تتجاوز نسبة المنتسبين إلى الاحزاب 10%. وبات حزبان مسيحيان يتحكمان بالتمثيل المسيحي، وآخران يتحكمان بالتمثيل الشيعي، وواحد يتحكم بالتمثيل السني، وآخر بالتمثيل الدرزي، ولم يعد وجود النواب المستقلين داخل البرلمان يتعدّى عدد أصابع اليد الواحدة. وكذلك، تحتكر أحزاب الطوائف هذه التمثيل داخل الحكومة، وتقرّر سياسة البلد.
الخطوة الثانية، منح رئيس الجمهورية الجنسية اللبنانية لرجال أعمال سوريين مقرّبين من النظام السوري، كي يتمكنوا من استعمال لبنان للالتفاف على العقوبات الاقتصادية التي فرضت على النظام، فيما ترفض السلطات الأمنية اللبنانية إعطاء إقامات لمعارضين سوريين، وتمارس
التضييق على بعضهم، وتغض النظر عن تسليم آخرين لأجهزة مخابرات الأسد.
ثم جاءت الخطوة الثالثة مع بدء الحملة على النازحين السوريين، ليس فقط من باب أنهم فعلا، وعن حق، يشكلون حملا ثقيلا على الاقتصاد اللبناني، وعلى التركيبة الديموغرافية اللبنانية الحساسة، وأيضا على الأمن اللبناني، وإنما من باب شوفيني وعنصري، لأنهم سوريون، وليسوا لبنانيين، إذ إن وزير الخارجية ورئيس "التيار العوني" الحاكم، جبران باسيل، يؤمن بأن اللبناني يتمتع بـ"جينات خالصة"، تميزه عن الآخرين كما أعلن، وهو يريد أن يحافظ عليها. هذا في الدعائية والتجييش الشعبوي للشارع المسيحي الذي ما زال يتأثر بهذه التعبئة الطائفية، ويتوجس من المسلم الذي "يتعدّى على حقوقه"، بحسب الخطاب الدائم والمفضل لدى باسيل، فكيف إذا كان هذا المسلم سوريا؟
أما الوظيفة الأبعد سياسيا وإقليميا فهي في التواطؤ مع النظام السوري لإعادة النازحين إلى المناطق التي استعاد السيطرة عليها، وليس إلى مناطقهم التي هجروا منها في القصير والقلمون، والتي هي اليوم تحت سيطرة حزب الله، فهم غير معنيين بحل سياسي للأزمة السورية، ولا يأبهون لضرورة أن تكون المناطق التي يريدون إرجاع النازحين إليها آمنة، فقد اقترحوا حتى نقلهم إلى خيم تنصب على المقلب الآخر من الحدود في الداخل السوري. وقد تحوّل هذا الهدف إلى الشغل الشاغل للتيار العوني، ولرئيس الجمهورية اللذين راحا يتهمان الأمم المتحدة والدول الكبرى بالتآمر على لبنان! وقد توجه عون خصيصا إلى موسكو لطلب حماية "المسيحيين المشرقيين" المهدّدين كأقليات بوجودهم بحسب البروباغندا العونية، ولمطالبة الرئيس فلاديمير بوتين بالمساعدة في إرجاع النازحين. وكان جواب بوتين صادما، إذ أكد لعون أن العودة مسألة معقدة، لا يمكن أن تتم قبل إطلاق الحل السياسي، وإعادة إعمار المناطق والمدن السورية المدمرة. وطبعا، تنشأ هذه العنصرية وتتغذّى، في البداية، من الجهل والتعصب والتعبئة ضد اللبناني الآخر المسلم أو المختلف، مثل الحملة التي يخوصها العونيون ضد زعامة وليد حنبلاط (أي الدروز) في مناطق جبل لبنان، على الرغم من المصالحة المسيحية - الدرزية التي حصلت عام 2001 برعاية البطريرك الماروني الراحل نصرالله صفير. ثم يتحول هذا الشحن إلى كراهية ضد السوري أو الفلسطيني والأجنبي بشكل عام من أجل الكسب السياسي الرخيص
الذي لا تجد هذه الطبقة السياسية الرثّة والمتهالكة أسلوبا أفضل لإرجاع لبنان إلى مجاهل القرون الوسطى. وقد بدأت عملية إعادة النازحين السوريين بالترغيب والترهيب على دفعاتٍ صغيرة، كمن يحاول نقل مياه البحر بكوبٍ صغير، ظنا منهم أنهم يؤدون خدمة لبشار الأسد الذي يسعى إلى تعزيز رصيده، في حال حصول انتخابات رئاسية، أو تنظيم استفتاء شعبي على الدستور الجديد. ولكن الأسد أظهر أنه عنصري أكثر منهم، عندما أكد أن لا ضرورة لعودة جميع النازحين حفاظا على "التجانس الاجتماعي" للسكان. كما أنه يريد أن يبقى النازحون حيث هم، لكي يلعبهم ورقة ضغط على الدول المضيفة المجاورة، لبنان والأردن وتركيا، وورقة مساومة مع الدول الكبرى.
وما إن بدأت تخف الحملة على النازحين السوريين، حتى أثارت الإجراءات التي اتخذها وزير العمل، كميل أبو سليمان، لتنظيم الوجود الأجنبي والعمالة الأجنبية، موجة غضب واستنكار لدى الفلسطينيين. الإجراءات التي أعلن عنها الوزير، وهو أحد ممثلي حزب القوات اللبنانية في الحكومة، تهدف إلى تطبيق القانون الذي ينص على حصول الأجنبي على إقامة وإجازة عمل، كي يتمكن من ممارسة أي عمل أو مهنة ما، وهو قانون مقرّ ومعدل عام 2010، لكنه إلى غاية اليوم لم يطبق. انطلق الغضب من فلسطينيي المخيمات الذين يعتبرون أنهم ليسوا أجانب أو لاجئين أو نازحين كالآخرين، لأنه إذا لم يحصل أحدهم على إجازة عمل ماذا يفعل، وإلى أين يعود أو يغادر أو إلى أين يتم ترحيله؟ ويعتبرون أن القصد من تطبيق هذه الإجراءات هو إجبارهم على الهجرة أو المساهمة في توطينهم في لبنان! خطوة مقصودة أم دعسة ناقصة؟ الوزير ومن وراءه نفى أن يكون المقصود ذلك، وأنه أراد فقط تطبيق القانون، وأبدى استعداده للتعاون، وتبديد كل هواجس الفلسطينيين، واستثنائهم من هذه الإجراءات، غير أن الأخطر في الأمر هو الفحيح العنصري الذي أطل فورا برأسه، وراح يتغذّى من كل الضخ الذي سبق ورافق كل هذه الأشهر الحملة على النازحين السوريين، وراح يوسع هوة الغضب والاستياء والحذر من الفلسطينيين تجاه الشارع المسيحي، والعكس صحيح.
صحيح أن العنصرية هي من أشكال كراهية الآخر، وتعبير عن شعور بالتفوق عليه، إلا أنها
أيضا أحد أسلحة من في السلطة أو من يسعى إليها، بهدف تنمية الغرائز لدى العامّة ضد الآخر من أجل كسب تأييدها، والحصول على ولائها. وبما أنه ليس في وسع "التيار العوني" أن يركب كل موجات التحريض العنصري معا، وفي التوقيت نفسه، وبدل أن يحاول الدخول على خط التهدئة، وتبديد هواجس الفلسطينيين، صبّ باسيل الزيت على النار، معلنا تأييد تياره كل إجراءات وزارة العمل التي من شأنها تطبيق القانون. هل هي محاولة خبيثة للإيقاع بـ"أخيه اللدود"، سمير جعجع والقوات اللبنانية، من أجل تأجيج غضب الفلسطينيين عليهما؟ أم لأنه فعليا مقتنع بهذا النهج الذي يسير عليه في مواجهة أخصامه في الداخل، وفي التعبئة، وشد عصب "اللبننة" ضد الخارج وغير اللبناني، ولكنه تحاشى المواجهة المباشرة مع الفلسطينيين مراعاةً لحليفه حزب الله! فيما تساءلت أوساط اذا لم يكن حزب الله نفسه هو من يقف وراء ردة الفعل الفلسطينية، بدليل هذه الهبة المفاجئة السريعة والشاملة من كل المخيمات، وخصوصا مخيم عين الحلوة؟
ثالثة الأثافي كانت حملة القمع والترهيب الهمجية باسم الدين ضد كلمات وصور تتضمنها بعض أغان لفرقة موسيقية لبنانية، اعتبرت مسيئة للدين المسيحي، وتنبه الرأي العام إلى أن هناك "داعشية مسيحية" تعيدنا إلى زمن "محاكم التفتيش"، فقد شنت بعض السلطات الكنسية المحلية لمدينة جبيل/ بيبلوس أم الحرف حملة لمنع الحفل المرتقب لفرقة "مشروع ليلى" ذات الشهرة العالمية ضمن مهرجانات بيبلوس الدولية، لأنّ أغانيها "تمسّ بالقيم الدينية والإنسانية وتتعرّض للمقدسات المسيحية"، و"تشكل إساءة وخطراً على المجتمع". وسبقت الموقف الكنسي حملة عنيفة على مواقع التواصل الاجتماعي، استهدفت أعضاء الفرقة، وصلت إلى حد التهديد باللحوء إلى العنف. وللمفارقة، قاد الحملة طبيب قيادي في التيار العوني إذ أعلن أنه سيذهب ويمنع الحفل بالقوة إذا لم يتم إلغاؤه. علما أن القاضي المختص استمع إلى أعضاء الفرقة، وأخلى سبيلهم، غير أن "مطاوعي" التيار العوني والكنيسة في جبيل أصرّوا على موقفهم. ولكي لا ينفرد العونيون بتصدّر هذا التحرك المعادي لحرية التعبير والمعتقد التي يكفلها الدستور اللبناني، انضم حزب القوات إلى الحملة دعما لموقف مطران المدينة الذي يشكل تحديا لقرار القضاء، وكانت المزايدة بين من يثبت عصبيته وتخلفه اكثر من الآخر ومن يسيء إلى صورة المسيحيين رواد انفتاح وحضارة في التاريخ العربي الحديث!
ثم جاءت الخطوة الثالثة مع بدء الحملة على النازحين السوريين، ليس فقط من باب أنهم فعلا، وعن حق، يشكلون حملا ثقيلا على الاقتصاد اللبناني، وعلى التركيبة الديموغرافية اللبنانية الحساسة، وأيضا على الأمن اللبناني، وإنما من باب شوفيني وعنصري، لأنهم سوريون، وليسوا لبنانيين، إذ إن وزير الخارجية ورئيس "التيار العوني" الحاكم، جبران باسيل، يؤمن بأن اللبناني يتمتع بـ"جينات خالصة"، تميزه عن الآخرين كما أعلن، وهو يريد أن يحافظ عليها. هذا في الدعائية والتجييش الشعبوي للشارع المسيحي الذي ما زال يتأثر بهذه التعبئة الطائفية، ويتوجس من المسلم الذي "يتعدّى على حقوقه"، بحسب الخطاب الدائم والمفضل لدى باسيل، فكيف إذا كان هذا المسلم سوريا؟
أما الوظيفة الأبعد سياسيا وإقليميا فهي في التواطؤ مع النظام السوري لإعادة النازحين إلى المناطق التي استعاد السيطرة عليها، وليس إلى مناطقهم التي هجروا منها في القصير والقلمون، والتي هي اليوم تحت سيطرة حزب الله، فهم غير معنيين بحل سياسي للأزمة السورية، ولا يأبهون لضرورة أن تكون المناطق التي يريدون إرجاع النازحين إليها آمنة، فقد اقترحوا حتى نقلهم إلى خيم تنصب على المقلب الآخر من الحدود في الداخل السوري. وقد تحوّل هذا الهدف إلى الشغل الشاغل للتيار العوني، ولرئيس الجمهورية اللذين راحا يتهمان الأمم المتحدة والدول الكبرى بالتآمر على لبنان! وقد توجه عون خصيصا إلى موسكو لطلب حماية "المسيحيين المشرقيين" المهدّدين كأقليات بوجودهم بحسب البروباغندا العونية، ولمطالبة الرئيس فلاديمير بوتين بالمساعدة في إرجاع النازحين. وكان جواب بوتين صادما، إذ أكد لعون أن العودة مسألة معقدة، لا يمكن أن تتم قبل إطلاق الحل السياسي، وإعادة إعمار المناطق والمدن السورية المدمرة. وطبعا، تنشأ هذه العنصرية وتتغذّى، في البداية، من الجهل والتعصب والتعبئة ضد اللبناني الآخر المسلم أو المختلف، مثل الحملة التي يخوصها العونيون ضد زعامة وليد حنبلاط (أي الدروز) في مناطق جبل لبنان، على الرغم من المصالحة المسيحية - الدرزية التي حصلت عام 2001 برعاية البطريرك الماروني الراحل نصرالله صفير. ثم يتحول هذا الشحن إلى كراهية ضد السوري أو الفلسطيني والأجنبي بشكل عام من أجل الكسب السياسي الرخيص
وما إن بدأت تخف الحملة على النازحين السوريين، حتى أثارت الإجراءات التي اتخذها وزير العمل، كميل أبو سليمان، لتنظيم الوجود الأجنبي والعمالة الأجنبية، موجة غضب واستنكار لدى الفلسطينيين. الإجراءات التي أعلن عنها الوزير، وهو أحد ممثلي حزب القوات اللبنانية في الحكومة، تهدف إلى تطبيق القانون الذي ينص على حصول الأجنبي على إقامة وإجازة عمل، كي يتمكن من ممارسة أي عمل أو مهنة ما، وهو قانون مقرّ ومعدل عام 2010، لكنه إلى غاية اليوم لم يطبق. انطلق الغضب من فلسطينيي المخيمات الذين يعتبرون أنهم ليسوا أجانب أو لاجئين أو نازحين كالآخرين، لأنه إذا لم يحصل أحدهم على إجازة عمل ماذا يفعل، وإلى أين يعود أو يغادر أو إلى أين يتم ترحيله؟ ويعتبرون أن القصد من تطبيق هذه الإجراءات هو إجبارهم على الهجرة أو المساهمة في توطينهم في لبنان! خطوة مقصودة أم دعسة ناقصة؟ الوزير ومن وراءه نفى أن يكون المقصود ذلك، وأنه أراد فقط تطبيق القانون، وأبدى استعداده للتعاون، وتبديد كل هواجس الفلسطينيين، واستثنائهم من هذه الإجراءات، غير أن الأخطر في الأمر هو الفحيح العنصري الذي أطل فورا برأسه، وراح يتغذّى من كل الضخ الذي سبق ورافق كل هذه الأشهر الحملة على النازحين السوريين، وراح يوسع هوة الغضب والاستياء والحذر من الفلسطينيين تجاه الشارع المسيحي، والعكس صحيح.
صحيح أن العنصرية هي من أشكال كراهية الآخر، وتعبير عن شعور بالتفوق عليه، إلا أنها
ثالثة الأثافي كانت حملة القمع والترهيب الهمجية باسم الدين ضد كلمات وصور تتضمنها بعض أغان لفرقة موسيقية لبنانية، اعتبرت مسيئة للدين المسيحي، وتنبه الرأي العام إلى أن هناك "داعشية مسيحية" تعيدنا إلى زمن "محاكم التفتيش"، فقد شنت بعض السلطات الكنسية المحلية لمدينة جبيل/ بيبلوس أم الحرف حملة لمنع الحفل المرتقب لفرقة "مشروع ليلى" ذات الشهرة العالمية ضمن مهرجانات بيبلوس الدولية، لأنّ أغانيها "تمسّ بالقيم الدينية والإنسانية وتتعرّض للمقدسات المسيحية"، و"تشكل إساءة وخطراً على المجتمع". وسبقت الموقف الكنسي حملة عنيفة على مواقع التواصل الاجتماعي، استهدفت أعضاء الفرقة، وصلت إلى حد التهديد باللحوء إلى العنف. وللمفارقة، قاد الحملة طبيب قيادي في التيار العوني إذ أعلن أنه سيذهب ويمنع الحفل بالقوة إذا لم يتم إلغاؤه. علما أن القاضي المختص استمع إلى أعضاء الفرقة، وأخلى سبيلهم، غير أن "مطاوعي" التيار العوني والكنيسة في جبيل أصرّوا على موقفهم. ولكي لا ينفرد العونيون بتصدّر هذا التحرك المعادي لحرية التعبير والمعتقد التي يكفلها الدستور اللبناني، انضم حزب القوات إلى الحملة دعما لموقف مطران المدينة الذي يشكل تحديا لقرار القضاء، وكانت المزايدة بين من يثبت عصبيته وتخلفه اكثر من الآخر ومن يسيء إلى صورة المسيحيين رواد انفتاح وحضارة في التاريخ العربي الحديث!