بعد أزمة النفايات، عاد التفلت الأمني ليطلّ من بوابة الرصاص العشوائي. باتت كلمات السياسيين تقاس بعدد الجرحى والقتلى، وباتت الأعراس والمآتم تقاس بزخات الرصاص التي ترافقها. لم تدفع جنازات الضحايا الجدد النيابات العامة للتحرك، ولا أقلقت صرخات العائلات المكلومة الراحة العامة. وهي نفسها الراحة العامة التي دفعت بيادق القضاء للادعاء على عشرات الناشطين وسوقهم إلى المحكمة العسكرية خلال أشهر الحراك المدني. وكلما يشتد إحساس المواطنين بالخطر وبعجز الدولة عن حمايتهم، ترتفع حدة المصارعة بين الفقراء في هذا البلد. في البقاع الشمالي مثلاً، وقف فقراء شيعة بوجه فقراء سنة، حاملين لغم الانقسام الطائفي الإقليمي، ومزنرين بحزام ناسف من التطرف الرابض على مرمى حجر من بلداتهم، ينتظر فرصة للتغلغل وتفجير الوضع المأزوم. حوّل فشل الدولة وعجزها البدلة العسكرية التي ارتداها ابن عشيرة حمية إلى بدلة للإعدام. ألبستها الدولة له ولغيره من أفراد الشرطة والجيش الذين وجدوا أنفسهم أمام تنظيمين متطرفين في معركة غير متكافئة سقط فيها من سقط وأسر فيها من أسر.
انتظر بعضهم فتح تحقيق أو إعلان سبب الخرق الفاضح للإجراءات العسكرية في عرسال، لكن ذلك لم يحدث. ظهر قائد الجيش بعدها رافعاً السيغار الثخين، والضحكة ملء وجهه العسكري الحازم. توالي هذه المشاهد يؤكد منهجيتها في نظام الحكم اللبناني، من رقصة وزير الداخلية في جزيرة ميكونوس اليونانية، إلى قرع وزير اشتراكي سابق على الطبلة في حفل زفاف باذخ أقامه لولده. هم يطبلون ويرقصون والفقراء يتصارعون.