68 موطناً لبنانياً وأجنبياً، تم اعتقالهم يومياً في لبنان، خلال الأشهر الثلاثة الأخيرة. الرقم صادم، لكنه حقيقي. أُطلق سراح العديد من هؤلاء، بسبب عدم وجود دليل على تورطهم بأعمال مخلّة بالأمن. لكن إطلاق سراحهم، لا يعني الاعتذار علناً مثلما تم التشهير بهم علناً عند اعتقالهم. الأهم من الاعتذار، هو أن هؤلاء يمرون بمرحلة التحقيق لدى الأجهزة الأمنية والعسكرية اللبنانيّة، مع ما يعنيه هذا من إهانات وتعذيب جسدي ونفسي، وهذا ما يترك أثراً سلبياً في العلاقة بين المعتقلين وبيئتهم والأجهزة الأمنية والعسكرية، ما يجعل قدرة هذه الأجهزة على العمل تتراجع.
وتحت عنوان "مكافحة الإرهاب" يتم "كمّ أفواه" المعترضين على هذا الأداء، إعلامياً في لبنان. فأي نقاشٍ حول هذه الممارسات بات ممنوعاً مع ارتفاع الدعوات للحسم العسكري وما يستتبعه ذلك من تجاوزات. لكن من يُراقب حركة الشارع السني في لبنان، بشقه اللبناني أو السوري والفلسطيني، يكتشف حجم الحقد الذي يتراكم لدى الشبان تجاه هذه الممارسات. يتحوّل الأمر تدريجياً ليصل إلى رفض لكلّ ما تُمثله الدولة خصوصاً من أجهزة أمنيّة. من جهتها، لا تكتفي الحركات السلفية الجهادية بمراقبة المشهد، فالوضع مناسب لها للتحرك، ومراكمة الدعم الشعبي بهدف تحقيق أهدافها. واستطاعت "جبهة النصرة" إحداث خرق جدي على مستوى التأييد الشعبي في لبنان.
التعذيب ممنهج
في أكتوبر/تشرين الأول 2014، نشرت لجنة الأمم المتحدة لمناهضة التعذيب ومقرها جنيف، ملخصاً عن تقرير "سري وعاجل جداً" أعدته بعثة تحقيق تابعة للجنة، وقد رفضت الدولة اللبنانية نشر هذا التقرير، وخلص إلى أن "التعذيب يُمارس ومورس على نحو منهجي في لبنان، لا سيما في سياق التحقيق وبغرض انتزاع الاعترافات". وأحالت اللجنة الدولية التقرير على وزارة الخارجية اللبنانية لتحوّله بدورها الى الجهات اللبنانية المعنية "من أجل وضع الملاحظات على مضمون التقرير للرد عليه قبل 22 نوفمبر/تشرين الثاني الجاري".
لم ينل الموضوع الاهتمام الذي يستحق، "فلبنان في سياق حربٍ على الإرهاب" كما يُقال هنا. هذه "الحرب" تجعل تجاوز القوانين أمراً مقبولاً، من دون أن يدري، أو يدري المسؤولون الأمنيون والسياسيون، أن هذه الممارسات هي التي تغذي "الإرهاب".
وبحسب التقرير فإن "أساليب التعذيب التي تلجأ إليها مختلف الأجهزة الأمنية تتراوح بين الضرب وأساليب التعذيب الأكثر شدة وتعقيداً مثل "البالانكو" (تعليق المحتجز من معصميه المربوطين خلف ظهره)، و"الفروج" (التعليق من الأرجل مع ربط اليدين بقضيب حديدي تحت الركبتين)، اللذين يُقال إنهما الأسلوبان الأكثر شيوعاً".
وينقل التقرير عن "الموظفين الطبيين في سجن بعبدا للنساء أن الفحوصات البدنية التي أُجريت في مناسبات عدة في تلك المؤسسة كشفت علامات تعذيب واضحة، بما فيها العنف الجنسي".
كما لاحظت البعثة خلال زيارتها إلى مركز فرع المعلومات في المديرية العامة لقوى الأمن الداخلي في بيروت، أن "غرف الاستجواب الخمس الواقعة في الطابق السابع من المبنى ومحتوياتها (أي كرسي تحقيق مثبت بالأرض وحلقات على الأرض إلى جانبه، وصناديق لتوصيل الكهرباء مثبتة في الأرض، وعدة حُفر في الأرض والسقف، بين أشياء أخرى) تُطابق الوصف الذي تلقته قبل زيارتها من قبل ضحايا مزعومين للتعذيب محتجزين في سجن رومية ادعوا أنهم تعرضوا للتعذيب أثناء الاحتجاز تحت سلطة قوى الأمن الداخلي".
وخلال زيارة البعثة إلى سجن مديرية استخبارات الجيش اللبناني في مقر وزارة الدفاع، "أقرّ رئيس التحقيق بوجود ادعاءات تتعلق بأعمال تعذيب وسوء معاملة يُقال إنها تحدث في مركز الاحتجاز هذا". وفي صيدا، جنوبي لبنان، منع رئيس فرع استخبارات الجيش البعثة من الاطلاع على سجل الحجز، "ووجدت البعثة خلال تفقد هذا المرفق خمس زنزانات فارغة في قبو المبنى، رغم أنها قد أُخبرت بأن المبنى لا يحوي أي غرفة للاحتجاز".
وخلصت البعثة إلى أن "التعذيب ممارسة متفشية في لبنان تلجأ إليها القوات المسلحة والأجهزة المكلفة بإنفاذ القانون لأغراض التحقيق، ولضمان استخدام الاعترافات في الإجراءات الجنائية، وأحياناً لمعاقبة الضحايا على الأعمال التي يُعتقد أنهم قد ارتكبوها". وأضاف التقرير أن الأدلة التي جمعت تُشير "إلى وجود نمط واضح من تفشي تعذيب المشتبه بهم وسوء معاملتهم في الحجز، بما في ذلك الأشخاص الموقوفون لارتكابهم جرائم تتصل بأمن الدولة وغيرها من الجرائم الخطيرة، إضافة إلى الأجانب، لا سيما السوريون والفلسطينيون".
وتنظر اللجنة: "بكثير من القلق إلى الادعاءات التي تلقاها أعضاء البعثة بشأن عمليات توقيف غير شرعية، وأعمال تعذيب تمارسها جهات غير حكومية، كالميليشيات المرتبطة بحزب الله وميليشيات مسلحة أخرى قبل تسليم الضحايا إلى الأجهزة الأمنية اللبنانية". وتجدر الإشارة إلى أن "الأغلبية العظمى من السوريين الذين قابلتهم البعثة أفادوا بأنهم تعرضوا للتعذيب".
شهادات مرعبة
يشكّل التقرير صدمةً للبنانيين وخصوصاً أن الغالبية منهم لا تزال ترى في الجيش اللبناني على وجه الخصوص، المؤسسة الضامنة للبلد، "لكن هناك ضرورة للالتزام بالقوانين أكثر مما هو الوضع حالياً" كما يقول أحد وزراء الحكومة اللبنانيّة لـ "العربي الجديد". كما أنها ليست المرة الأولى التي يسمع فيها اللبنانيّون بالتعذيب. فاسماعيل الخطيب، المتهم بانتمائه لتنظيم "القاعدة"، مات تحت التعذيب في سبتمبر/أيلول 2004 لدى فرع المعلومات التابع لقوى الأمن الداخلي. وفي يونيو/حزيران 2014، قتل نادر البيومي بعدما تعرّض للتعذيب لدى استخبارات الجيش بتهمة حمل السلاح مع الشيخ أحمد الأسير، علماً أن البيومي سلّم نفسه بعد أن طلبته استخبارات الجيش.
بين الحادثتين، لم تتوقف الانتهاكات في السجون ومراكز التوقيف اللبنانيّة، لا بل زادت وخصوصاً في العام الحالي. روايات الشبان الذين خاضوا تجربة الاعتقال المريرة. كثيرٌ منهم لا يزال يحمل آثار التعذيب، وأغلبهم يرفض الحديث ومن يقبل يشترط عدم ذكر اسمه.
في هذا السياق، يتحدث عدد من الموقوفين السابقين لدى أحد الأجهزة الرسميّة، لـ "العربي الجديد" عن أساليب التحقيق والتعذيب المعتمدة لدى هذا الجهاز. يقول أحد الموقوفين الإسلاميين، إنه تعرّض لثلاث جلسات تحقيق وتعذيب لدى المحققين في المقر الرئيسي. تعرّض الشاب للضرب والفلقة والدولاب وللتعليق على "البلانكو" لأيام، والمنع من الأكل والشرب، والشتم والتهديد باغتصاب أمه وشقيقاته، إضافةً إلى إسماعه جلسات التعذيب التي يتعرض لها موقوفون آخرون.
يشرح الشاب نفسه، كيف يبدأ التحقيق منذ الاعتقال. يُحضر الموقوف مخفوراً، معصوب العينين. عند الوصول إلى المبنى الرئيسي تتم تعريته من كل ثيابه، وإجراء تفتيش شرجي له. يتكرر هذا التفتيش ثلاث مرات، عند ثلاثة مداخل حتى يصل إلى مبنى التحقيق. خلال هذه الرحلة، يتعرّض الموقوف للضرب باليدين والرجلين. كل هذا يحصل، ولا يعرف الموقوف سبب توقيفه، ولا الذين يضربونه يعرفون السبب حتى.
عند الوصول إلى المبنى يتم إعطاء كلّ موقوفٍ رقماً. من الآن وصاعداً، تتم المناداة بالرقم، لا الاسم. وإذا لم يردّ الموقوف يتعرض لجولة ضرب. التعذيب حتى هذه اللحظة لا يزال مقتصراً على استعمال اليدين والرجلين، وبعض العصي، وأسلاك كهربائيّة. قد يتم تغيير رقم الموقوف، من دون إبلاغه، وبالتالي عند المناداة بالرقم الجديد، هو لن يرد، وسيتعرّض لموجة من الضرب.
قد تطول مرحلة انتظار التحقيق لساعات وربما أيّام. في هذا الوقت، على الموقوف أن يبقى واقفاً على قدميه في الممر، معصوب العينين، يسمع تعذيب الآخرين، ويتعرض للضرب من كل عسكري يمر بجانبه.
خلال التحقيق، لا يتم تسجيل التحقيق ولا تدوينه حرفياً. وعلى الموقوف أن يوقّع في نهاية التحقيق على أوراق اعترافاته، وهو معصوب العينين كل هذا الوقت. فهو غير قادر على قراءة ما اعترف به.
التوقيع على الاعترافات التي يُريدها المحققون، لا يعني انتهاء حفلات التعذيب. أحد الشبان السلفيين، استُدعي من سجن رومية بعد أن كان قد خضع للتحقيق والتعذيب سابقاً. سبب الاستدعاء، هو التأكّد إذا ما كان هذا الشاب، هو من عرّف شابين آخرين أحدهما للآخر. عُلّق الشاب على "البلانكو" فور وصوله، ثم عُلّق بعد أن سأله المحقق عن هذا الأمر. أجاب الشاب بالإيجاب، وعندما سأله المحقق لماذا لم يذكر الأمر سابقاً، قال إنه لم ينتبه له ولم يسأله أحد عن الأمر كانت إجابة المحقق: "عليك أن تقول كل ما تعرفه ونحن نقرر ما هو المهم". ولذلك عُلق على "البلانكو" مجدداً كإجراء عقابي.
استخدام الكهرباء في التعذيب ليس شائعاً كالبلانكو والدولاب لكنه موجود. كثرٌ، هُددوا بالكهرباء ولم يُعذبوا بها.
ومن الأمور اللافتة أيضاً، أن جميع المحققين والسجانين، تتم مناداتهم بـ"عطية". لا يوجد اسم آخر. يؤكّد معظم من مرّوا على أيدي "عطيّات". اللافت أيضاً، أنه في حالات عدّة تم إطلاق سراح الموقوفين (خصوصاً الإسلاميين) بعد سنة أو سنتين من اعتقالهم، عند تحويلهم إلى المحاكمة، لأن لا وجود لأدلة في ملفاتهم، لكن هذا لا يؤدي إلى تعويضهم معنوياً أو مادياً، ولا لمحاسبة معتقليهم، بل على العكس، يجعلهم عرضة للمتابعة الأمنيّة. وهنا، يُشير عدد من الموقوفين الى أنه فور إحالتهم إلى قاضي التحقيق العسكري، يُبلغونه بما تعرضوا له من تعذيب، ومنهم من يُريه آثار التعذيب، ومع ذلك، يأخذ قاضي التحقيق بما وصله من المحققين، ولا يُحيل الموقوفين إلى طبيب شرعي في أغلب الحالات.
الأثر السياسي لهذه التجاوزات أكبر بكثير من الأثر الذي يطال الفرد. فعند خروج الموقوف من أي مركز توقيف، سيُخبر عائلته وأهله وأصدقائه بما حصل معه، وهذا ما سيخلق نقمة تجاه الأجهزة الأمنيّة والعسكرية، يحدّ من قدرتها على ممارسة عملها، ويفتح الطريق أمام "المجموعات الإرهابية" للعثور على آذانٍ صاغية. لم يصل الأمر في لبنان إلى خط اللاعودة، ولا تزال المصالحة ممكنة بين الأجهزة الأمنيّة والعسكرية وجزء من الشارع اللبناني. مصالحة تأتي في مصلحة لبنان وهذه الأجهزة بالدرجة الأولى.