بعد 41 عاماً، ثمة إجماع لبناني على أن الحرب الأهلية كانت عبثية بجزء كبير منها. قد يكون هذا التوصيف هرباً من مسؤولية سقوط ما يزيد عن 150 ألف قتيل، و300 ألف جريح ومعوّق، و17 ألف مفقود، وتهجير أكثر من مليون لبناني. هذه الأرقام تقريبيّة إذ تغيب حتى اليوم الأرقام الرسمية. لكن لتلك الحرب تفاصيلها العبثية الفعلية، بدءًا من كون أقلّ من خمسة في المائة من اللبنانيين سيطروا على قرار 95 في المائة منهم، وفرضوا الحرب والمحاور عليهم، في ترجمة فعلية لعبثية الحروب عموماً.
مع انتهاء الجزء الأول من الحرب اللبنانية، أي حرب السنتَين (1975 ــ 1976)، بما كانت عليه، بين مشروعَين اثنين: فمع الدخول الأول للجيش السوري إلى لبنان عام 1976 بطلب من القوى اليمينية المسيحية، في حينها، ضد القوى الفلسطينية واليسارية، اختتمت كل من الجبهة اللبنانية (القوى المسيحية اليمينية وعلى رأسها حزب الكتائب)، والحركة الوطنية (القوى اليسارية وعلى رأسها كمال جنبلاط، والفصائل الفلسطينية)، الحرب العقائدية وحرب المشاريع السياسية (بين يمين ويسار، بين دعم القضية الفلسطينية وإقفال حدود لبنان في وجه المارونية السياسية التي كانت تحتكر الحكم في البلد). تلك الحرب السياسية يمكن ترجمتها على الأقلّ بوجود مسيحيين قتلوا مع المنظمات الفلسطينية وقوى اليسار، ومسلمين آخرين قتلوا على الجبهات ببزّات الكتائب اللبنانية ومع بنادق عليها شعارات خاصة بـ"المعسكر المسيحي".
هي حالات عديدة، لا يزال عدد من أهالي أولئك القتلى يخشون الحديث عنها، مع العلم أنّ جثامين بعض هؤلاء عادت إلى مناطق ذويهم حيث تمّ دفنها بسرية وبالبزّات العسكرية التابعة للمعسكر الآخر. قبل عامين، انكشفت إحدى هذه الحالات في إحدى أكبر المقابر الإسلامية على أطراف بيروت، حين كانت تتم عملية دفن إحدى النساء المتوفيات والتي كانت ستدفن بنفس القبر مع ابنها بحسب وصيتها، وبما يسمح به الشرع الإسلامي. وأثناء الدفن، ظهرت بزّة زيتية عليها شعار حزب الكتائب، فانتهت المراسم على عجل.
بإعلان انتهاء "حرب السنتين" انتهت الحرب بين "الشرقية" (منطقة نفوذ المسيحيين) و"الغربية" (منطقة نفوذ القوى الوطنية والإسلامية)، لتنتقل المواجهات إلى داخل كل معسكر. وتترجم جملة من الحوادث والوقائع العبثية، عملية فرض النفوذ داخل المعسكر الواحد. مشاهد الحروب اللاحقة داخل المعسكر الواحد تتالت، مثل معركة "توحيد البندقية" (1980، التي أطلقها مؤسس القوات اللبنانية بشير الجميّل) في "الشرقية"، والتي انتهت بتصفية الجميّل للتنظيمات المسيحية التي تنافسه على زعامة المنطقة. تماماً كما هي حال "حرب العلم" (1985، بين الحزب الاشتراكي والحزب الشيوعي ومنظمة العمل الشيوعي من جهة وحركة أمل من جهة أخرى)، أو حرب زعيم القوات اللبنانية الحالي سمير جعجع وقائد الجيش وقتها ميشال عون (1990)، وغيرها من المحطات الرئيسية التي شهدتها ساحات القتال.
في تلك الحروب المتنقلة، تمّت مثلاً تصفية مقاتلين مسيحيين من الحزب الشيوعي يشاركون في "حرب الجبل" (النصف الأول من الثمانينيات) إلى جانب الحزب الاشتراكي بوجه القوات اللبنانية. قتل هؤلاء لأنهم مسيحيون فقط، ولو أنهم يحملون السلاح إلى جانب "رفاق" لهم من الحزب الاشتراكي ذي الأغلبية الدرزية. يروي كثيرون كيف أنه في أحد المواقع التابعة للحزب الاشتراكي في منطقة الشوف (جبل لبنان، مختلطة بين المسيحيين والدروز)، تحوّلت البنادق من الجبهة مع "القوات" إلى داخل المتراس نفسه، حين سُمع اسم "طوني" الذي يحمله أحد المقاتلين الشيوعيين.
مرّت تلك الحادثة على خير لكن في حالات أخرى وقع الموت والإعدام لمجرّد وجود اسم يدلّ على هوية المعسكر الآخر. وبالطبع، معارك النفوذ داخل المعسكر الواحد تعدّدت وتشعّبت وكان أبزرها بين حزب الله وحركة أمل في جنوب لبنان والضاحية الجنوبية لبيروت، تماماً كما كانت الحرب بين عون وجعجع وقبلها بين "الكتائب" وحزب "الوطنيين الأحرار". تلك المعارك كادت لا توفّر منزلاً من لعنتها، حيث تمّ الاقتتال داخل العائلة الواحدة، قتل ابن والده أو أخيه، أو العكس. كان كل ذلك عبثياً، باعتراف مقاتلي الجبهات وضحاياهم، وكذلك كانت أيضاً فترات السلم والهدوء بعد انتهاء جولات الاشتباكات على المحاور.
عبثية الحرب تلتها أيضاً عبثية السلم، بشكل عام، فما يعيشه اللبنانيون اليوم في حياتهم اليومية وتفاصيلها السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، والإنسانية تشبه إلى حد كبير مراحل هدوء الحرب على جبهات القتال. قضايا وملفات مثل النفايات، والقضاء، والشغور الرئاسي، والتعطيل السياسي، ومعالجة الأمن وغيرها، باتت جزئيات عبثية ولو أنها تندرج في إطار مشاريع سياسية فعليّة قائمة على التعطيل. صراعات النفوذ مستمرة، كما في السابق وضحاياها موجودون، لكن من دون بنادق ومتاريس.