31 مايو 2017
لبنان ومهام اليسار الراهنة
هناك حَوَل "يساريّ" لدى اليساريين اللبنانيين في تنظيرهم للاقتصاد السياسي الفعلي لبلدهم، وهو حَوَلٌ يمكن تلخيصه بأنّه ذو مستويين، نظري وعملي: الأوّل يقع على مستوى النظرية الواقعية للاقتصاد السياسي اللبناني التي حتى، في كتابات أفضل المنظّرين اللبنانيين (شربل نحّاس، فوّاز طرابلسي، مثلاً) يتمّ فيها حصر الرأسمالية الفجّة في لبنان بالتركة النيوليبرالية التي بدأت مع قدوم رفيق الحريري إلى السلطة عام 1992، وما تلاها من مستفيدين منها، وتنويعات فيها ومقلّدين لها. في التحليل السائد هذا، تُعتبر الهيكلية الحاليةّ للنظام المصرفي اللبناني التي تسمح لكبار المودعين والمصرفيين وشركائهم من السياسيين بجني أرباح طائلة، بأنّها الشرّ الأعظم بسبب خدمة الدين العام، لا بل تصبح هي الشرّ "الوحيد" المعترف به في الاقتصاد السياسي اللبناني. وهو شرّ أنتج وينتج ارتباط هؤلاء النخب بشبكات كبيرة من ملاّك الأراضي، وبأرستقراطية قطاع العقارات والبناء وخلافه على مدى الجمهورية اللبنانية. وهذه كلّها شرور أدت، وتؤدّي، إلى تهجير متزايد للبنانيين إلى مختلف أصقاع العالم، بسبب البطالة والإملاق. كان هذا باختصار هو السلاح النظري الأساسي لكل الحركات الاجتماعية والصراعات الطبقية التي ميّزت السنتين الماضيتين في لبنان ضدّ العصب الأساسي للنواة الحاكمة في لبنان اقتصادياً داخل لبنان، أي الثلاثي العتيد، "تيار المستقبل" (فؤاد السنيورة/سعد الحريري-نبيه برّي- وليد جنبلاط)، لكنّ مفتاح النقص هنا يكمن بأنّها نظرة جزئية للحقيقة. نظرة مبتورة تموّهها تكرار كلمة "اقتصادياً" التي تدغدغ شعور الماركسي، وتعطيه إحساساً زائفاً بعلميّة مفترضة. فالنظرة الماركسية اللينينية الواقعية، تفترض أنّ السلطة الطبقية سياسية أولاً وأخيراً، وليست مجرّد سلطة "اقتصادية". "السياسة تكثيف للاقتصاد" على حدّ قول ثوري كبير، اسمه فلاديمير إليانوفتش لينين. نظرة كهذه تعني أنّ التمويل "اللامرئي" على المستوى المصرفي واللا-مصرفي (السوق السوداء، التهريب، الأموال التي تأتي من إيران ومن أميركا الجنوبيّة) لاقتصاد "حزب الله". ولكن كذلك الأيديولوجيا والإعلام والأمن وغيرها من الأمور، هو ما يسمح للأخير بالتسلّح وإرسال المقاتلين إلى كلّ أصقاع العالم من سورية إلى العراق.
تلك النظرة وحدها هي التي في وسعها فهم كيف يندمج ذلك كله بالمجتمع العامل في الأراضي اللبنانية وفي الاغتراب، وهي وحدها النظرة الماركسية الكاملة والوحيدة الصحيحة للاقتصاد السياسي الفعلي اللبناني، والتي تفهم الاقتصاد السياسي "لحزب الله" بأنه ليس إلا جزءاً من الاقتصاد السياسي الكامل للكتلة البشرية اللبنانية، مثل المصارف وقطاع البناء والعقارات. وهو، عِلاوة على ذلك، يشكّل أساس العلاقة الاستعمارية التي تجعل "المستعمرة اللبنانيّة" تكون بموقع المستعمرة الإدارية والمشاركة في قرارات المجهود الحربي الإيراني في العالم من
سورية والعراق والكويت حتى الباراغواي والأرجنتين. وبتعبير آخر، فإنّ نظرة ماركسيّة غير مهادنة نظرياً وحدها التي تستطيع توصيف موقع حزب الله في الحرب القومية العربية-الإيرانية (مقالة عزمي بشارة في "العربي الجديد" بعنوان "صراع سياسي راهن عربي إيراني" في 22 يناير/كانون الثاني 2016) التي تدور رحاها الآن حولنا. هذا كلّه ضروري لكي نفهم كيف أنّ الاقتصاد السياسي للاستعمار الإيراني هو الذي يجعل من لبنان مستعمرة إيرانية "ممتازة"، في ذاك البناء الممتد عبر العالم. وما يكتب، هنا، تصوّر سريع للفجوة النظرية الهائلة التي يفترض بنا سدّها، كيساريين لبنانيين عرب مسؤولين عن تباعات ما يفعله حزب الله وإيران في الوطن العربي. فسدّ هذه الفجوة النظرية لا يعني أنّ التحليلات الممتازة للقطاع المصرفي والرأسمال الريعيّ بطبعته اللبنانية غير صحيحة. بالعكس، بل هي ناقصة وينبغي استكمالها.
المستوى الثاني العملي الأصعب على التخيّل والتحقيق هو تحويل سدّ الفجوة النظرية هذا إلى ممارسة سياسيّة. فإذا كان اليسار اللبناني، اليوم، سواء أكنّا نعني مثقفين أو يساريين ناشطين أو متقاعدين أو نقابيين، أو جمهوراً شيوعياً صامتاً أمام قيادة حزب شيوعي لبناني يمينية، اختارت أن تنحاز إلى جانب مجرمين دوليين ومستعمرين يتقنون فنون الإبادة الجماعية على يد مليشيات مذهبيّة في سورية والعراق وباقي الوطن العربي، فإنّ هناك دوراً يمكن القيام به أكثر من مجرّد ترداد بعضهم شعار "كلن يعني كلن" عل "فيسبوك" كفّارة لعدم الدخول في التفاصيل الشيطانية. بات هذا الدور أضعف الإيمان في ظلّ يسار واهن وأحوَل، الذي في الوقت الذي تنعدمُ قوّته البشرية تقريباً، يمكن أن يقتصر دوره على الإيديولوجيا والإعلام والثقافة، بما لا يستقلّ عن واجباته القومية العربية والأمميّة.
ذلك يعني أنّ مهمّة اليسار، في هذا الخصوص، هو التوقّف عن الجبن السياسي الهائل الذي يطبع تنظيرات أكثريّة ممثليه، الذين يهاجمون، بشكل مباشر وعنيف، الاقتصاد السياسي الظاهر والرسمي للقسم الأكبر من النخب اللبنانية "اللااستعمارية"، والتي حتى لو كانت مافيويّة تجاه أهل بلادها، وفيها مجرمو حرب سابقون، أصبحوا أثرياء جدداً وناهبين للمال العام، فإنّ مهمتها العفِنَة البائسة تتوقف على نهب "الداخل" من أجل مشروع ثرائها الشخصي والعائلي والطبقي "الاقتصادي" المباشر فقط لا غير، بينما يسكت هؤلاء المنظرون عن المهام التي تعطيها الجزء المتبقي من النخب في لبنان، تلك "النخب الاستعمارية" والإيرانية الولاء في لبنان لأنفسها، والتي تتخطى جغرافيّة الاقتصاد اللبناني "الداخلي"، لتصبح تكليفاً يدعّي أنّه إلهيّ، لاستخدام كل الوسائل اللإنسانية، من أجل نشر سلطة إيران في العالم. وهذا هو تعريف المهمة الاستعمارية بامتياز.
أمام اليساريين اللبنانيين مهمّة كسر "التابوهات" العملية والسياسية بكلّ جديّة، استكمالاً لما بدأوه في العامين المنصرمين. إذ لم يعد ممكناً تحمّل مبدأ التقيّة اليسارية مع حزب الله بعد اليوم، ليس لأنّ الخلاف عقائدي بين أي يساري قومي عربي علماني وأيّ استعماري أو مذهبي من أيّ دين كان، بل لأن الدور الذي بات يلعبه حزب الله داخلياً عبر سيطرته على مرافق الحكم (السيطرة على الأمن والسياسة الخارجية ومنع انتخاب رئيس جمهورية للبلاد، ما يعنيه ذلك من إعاقة لدور المؤسسات الدستوريّة بحدّها الأدنى، حيث أنّ تأبيد الفراغ المؤسساتي هو الأداة الإيرانية الأرخص، الآن، في السيطرة على مقاليد السلطة الفعلية في البلاد)، وخارجياً من مجازر وإبادة جماعية من المقدادية والعظيم في العراق إلى ريف حلب وتعز والكويت والبحرين، إنّما يهدّد وجود الدولة اللبنانية والنسيج المجتمعي اللبناني بذاته في المستقبل. ولليساريين اللبنانيين أن يقوموا بمهامهم الراهنة، ولهم في هذا ما قاله أهل ثوار مدينة لاباز، عندما أعلن البوليفيون العصيان والاستقلال عن التاج الإسباني عام 1809 قائلين "التزمنا صمتاً شديد الشبه بالحُمق...".
تلك النظرة وحدها هي التي في وسعها فهم كيف يندمج ذلك كله بالمجتمع العامل في الأراضي اللبنانية وفي الاغتراب، وهي وحدها النظرة الماركسية الكاملة والوحيدة الصحيحة للاقتصاد السياسي الفعلي اللبناني، والتي تفهم الاقتصاد السياسي "لحزب الله" بأنه ليس إلا جزءاً من الاقتصاد السياسي الكامل للكتلة البشرية اللبنانية، مثل المصارف وقطاع البناء والعقارات. وهو، عِلاوة على ذلك، يشكّل أساس العلاقة الاستعمارية التي تجعل "المستعمرة اللبنانيّة" تكون بموقع المستعمرة الإدارية والمشاركة في قرارات المجهود الحربي الإيراني في العالم من
المستوى الثاني العملي الأصعب على التخيّل والتحقيق هو تحويل سدّ الفجوة النظرية هذا إلى ممارسة سياسيّة. فإذا كان اليسار اللبناني، اليوم، سواء أكنّا نعني مثقفين أو يساريين ناشطين أو متقاعدين أو نقابيين، أو جمهوراً شيوعياً صامتاً أمام قيادة حزب شيوعي لبناني يمينية، اختارت أن تنحاز إلى جانب مجرمين دوليين ومستعمرين يتقنون فنون الإبادة الجماعية على يد مليشيات مذهبيّة في سورية والعراق وباقي الوطن العربي، فإنّ هناك دوراً يمكن القيام به أكثر من مجرّد ترداد بعضهم شعار "كلن يعني كلن" عل "فيسبوك" كفّارة لعدم الدخول في التفاصيل الشيطانية. بات هذا الدور أضعف الإيمان في ظلّ يسار واهن وأحوَل، الذي في الوقت الذي تنعدمُ قوّته البشرية تقريباً، يمكن أن يقتصر دوره على الإيديولوجيا والإعلام والثقافة، بما لا يستقلّ عن واجباته القومية العربية والأمميّة.
ذلك يعني أنّ مهمّة اليسار، في هذا الخصوص، هو التوقّف عن الجبن السياسي الهائل الذي يطبع تنظيرات أكثريّة ممثليه، الذين يهاجمون، بشكل مباشر وعنيف، الاقتصاد السياسي الظاهر والرسمي للقسم الأكبر من النخب اللبنانية "اللااستعمارية"، والتي حتى لو كانت مافيويّة تجاه أهل بلادها، وفيها مجرمو حرب سابقون، أصبحوا أثرياء جدداً وناهبين للمال العام، فإنّ مهمتها العفِنَة البائسة تتوقف على نهب "الداخل" من أجل مشروع ثرائها الشخصي والعائلي والطبقي "الاقتصادي" المباشر فقط لا غير، بينما يسكت هؤلاء المنظرون عن المهام التي تعطيها الجزء المتبقي من النخب في لبنان، تلك "النخب الاستعمارية" والإيرانية الولاء في لبنان لأنفسها، والتي تتخطى جغرافيّة الاقتصاد اللبناني "الداخلي"، لتصبح تكليفاً يدعّي أنّه إلهيّ، لاستخدام كل الوسائل اللإنسانية، من أجل نشر سلطة إيران في العالم. وهذا هو تعريف المهمة الاستعمارية بامتياز.
أمام اليساريين اللبنانيين مهمّة كسر "التابوهات" العملية والسياسية بكلّ جديّة، استكمالاً لما بدأوه في العامين المنصرمين. إذ لم يعد ممكناً تحمّل مبدأ التقيّة اليسارية مع حزب الله بعد اليوم، ليس لأنّ الخلاف عقائدي بين أي يساري قومي عربي علماني وأيّ استعماري أو مذهبي من أيّ دين كان، بل لأن الدور الذي بات يلعبه حزب الله داخلياً عبر سيطرته على مرافق الحكم (السيطرة على الأمن والسياسة الخارجية ومنع انتخاب رئيس جمهورية للبلاد، ما يعنيه ذلك من إعاقة لدور المؤسسات الدستوريّة بحدّها الأدنى، حيث أنّ تأبيد الفراغ المؤسساتي هو الأداة الإيرانية الأرخص، الآن، في السيطرة على مقاليد السلطة الفعلية في البلاد)، وخارجياً من مجازر وإبادة جماعية من المقدادية والعظيم في العراق إلى ريف حلب وتعز والكويت والبحرين، إنّما يهدّد وجود الدولة اللبنانية والنسيج المجتمعي اللبناني بذاته في المستقبل. ولليساريين اللبنانيين أن يقوموا بمهامهم الراهنة، ولهم في هذا ما قاله أهل ثوار مدينة لاباز، عندما أعلن البوليفيون العصيان والاستقلال عن التاج الإسباني عام 1809 قائلين "التزمنا صمتاً شديد الشبه بالحُمق...".