كنت أصعد الأدراج عصر يومٍ قائظ في سوق بـ"مناغوا"، حين تحدَّث أحدهم معي دون أن أفهم كلماته. اسمه عبد الله؛ أسمر طويل وعريض الكتفين، عيناه سوداوان وغائرتان. رأيتُ جواز سفره المنقوش بخط ذهبي لافت، وخطر لي أنها كتابة هيروغليفية. استطعتُ قراءة كلمة مصر بالأحرف اللاتينية، أما البقية فكانت بلغة لا أفهمها، وهكذا بدأنا التّواصل بإنجليزيَّتنا المتواضعة.
وبسبب عدم معرفته للمكان، طلب مني المساعدة في مدينة مجهولة لا بد أنها أشعرته بالرّيبة. كان يُسافر مع أخيه، وكانت نيكاراغوا محطّة مرور لمدة أسبوع واحد قبل سفرهما إلى الولايات المتحدة.
كانا مقيمين في مكان مكلفٍ قرب المركز التجاري، فاقترحتُ عليه استئجار غرفة في فندق آخر بثمن قليل في حي "سويذاذ هاردين". وفي أقل من ثانية، تذكرتُ المسجد هناك، قريباً من سوق "أورينتال"، أو سوق الشرق حيث يقيم ويعمل عدد كبير من العرب منذ عقود مُتاجرين بأقمشتهم الملوَّنة. ولا شك أن هؤلاء "المورو" -كما نسميهم هنا- هم أفضل مَن عمل بالأقمشة.
في ذلك العام، بدأتُ أخذ دروس في الفلسفة. الفلسفة التي بقيت مرافقة لي في كتاباتي. شاءت الصدفة أن تكون تلك الدروس أيضاً في سويذاذ هاردين، وأن يستأجرا الغرفة التي كنت أسكنها سابقاً. وقد عشت دورة شمس كاملة في هذه الشوارع، وعرفت المنطقة جيداً.
في الليل جلسنا على شرفة الفندق. رأيته يصلي مرّات عدّة. كان يُخرِج مع أخيه سجّادة من المخمل الأحمر، ونسخة من القرآن، وبوصلة تدلهم على موقع مكّة. رأيتهما راكعيْن، وكانت صلاتهما نشيداً. غريبة، لكن وقعها بدا عذباً على سمعي. أسرتني العوالم السرية لثقافتهما. كان فيها سرّ، شيء مثير، شيء بهيج. ورأيت فيها احتراماً للحياة، ما زاد من إصراري على التعرّف أكثر إلى سحر هذه الثقافة. لقد كنت ممتنّة فعلاً لأنهما أتاحا لي دخول عالمهما الخاص ومشاهدة تلك الطّقوس.
تحدّثنا عن الفلسفة والأدب والموسيقى، عن الأندلس وعظمتها، عن أسوارها وحدائقها التي كانت تردّد الشِّعر، وانتهيا بتسميتي "الفيلسوفة"!
طلب مني عبد الله أن أصطحبه إلى الأماكن التي أُحب في مناغوا. ذهبنا إلى بحيرة "سولوتلان"، إلى مسرح "روبن داريو"، إلى "القصر الثقافي القومي" الذي أدهشه وأحب جداريّاته. ولسبب ما ذهبنا إلى مقبرة الشرق في مناغوا.
في كل مرة أزور فيها أمواتي، أقف على المدخل وأردد:
Letum Non Omnia Finit.
"الموت ليس النهاية".
مشينا بين المنحوتات والتماثيل الجنائزية. صمتنا أمام أبواب مقبرة عائلتي التي ينتصب على مدخلها تمثال للنبي موسى، مع ألواح الوصايا في يده اليمنى، وعصاه في اليد اليسرى. تمشّينا بين شواهد القبور الإسمنتية قبل أن نجلس على رصيف شارع صغير منزوِ حين باغتنا المطر.
أخذني عبد الله من يدي ثم منحني قبلة عذبة طويلة، مبتلّين، ممتلئين بالماء والقبل وسط المقبرة، هازئين بالموت. غرقنا بالمطر والقُبل دون أن يكون لدى أي منا خبرة، لكنّنا لم نتجاوزها، فقد كنت يافعة، وهو كان مسلماً.
في اليوم التالي، رافقته وأخيه إلى مطار "أوغستو ساندينو". عند الوداع، أهدياني صورتيْهما موقَّعتين، وكتاباً، ووروداً، شاكريْن لي لطفي وصداقتي. وما زلت أحتفظ بالصّورتين بين صفحات كتاب إدوارد سعيد الصفراء.
وأدرك الصباح شهرزاد، فسكتت عن الكلام المباح، وها هي تُشارك القرّاء نهاية القصة:
ظلَّ لعبد الله مكان دافئ في قلبي، بسبب احترامه لي كامرأة، ولحظاته العربية الحميمة، وطيفِهِ الذي يذكّرني بالخليفة المتحضِّر، عبد الرحمن الثالث.
* كاتبة من نيكاراغوا (ترجمة عن الإسبانية غدير أبو سنينة)