عُثر على جثمان المسعفة في فوج إطفاء بيروت سحر فارس، بعد انفجار المرفأ، لكنّ تسعة من زملائها لم يظهروا بعد. ماذا يقول رفاقهم في مركز الكرنتينا، عن تلك المهمة الأخيرة، التي لم تكن بأيّ شكل مهمة مألوفة؟
قبل دقائق من دوي انفجار بيروت الضخم، يوم الثلاثاء الماضي في الرابع من أغسطس/ آب، تلقّى مركز إطفاء بيروت في محلة الكرنتينا، بالقرب من مرفأ بيروت، وهو المرفأ الرئيسي والأكبر في لبنان، بلاغاً عن نشوب حريق في أحد عنابر (أقسام) المرفأ. أُطلق جرس الإنذار في المركز، فلبّت الشابة سحر فارس، ورفاقها التسعة المناوبون هناك، وجميعهم من الشبان، النداء سريعاً، وانطلقوا في سيارات الإطفاء إلى مكان الحادث. ومثل جميع المهام التي يهبّون إليها، ويعرّضون أنفسهم للخطر في سبيل القيام بها في أتمّ صورة، لم يتأخروا عن هذا الواجب. لكنّها لم تكن مهمة مثل بقية المهام التي اشتركوا فيها خلال السنوات الأخيرة، ولم يكن مجرد حريق، بل كارثة غيّرت وجه العاصمة اللبنانية تماماً، خلال دقائق، وصنعت مآسي كبيرة لعائلاتهم ولبقية زملائهم.
المشهد في محلة الكرنتينا التي قصدتها "العربي الجديد"، وهي المحلة الأكثر فقراً من بين جميع الأماكن التي تأثرت بالانفجار، كان منقسماً إلى صورتين؛ صورة المباني شبه المدمرة، وصورة النشاط التطوّعي في إزالة الركام من الشوارع. في مركز إطفاء بيروت في الكرنتينا، يتحدث زملاء العناصر العشرة الذين كانوا أول من ذهب في مهمة إنقاذ إلى المرفأ بعد الحريق، وقبل الانفجار، عن اللحظات الأليمة والصعبة التي عاشوها، وتركت أثراً حزيناً في قلوبهم.
عندما سمعت سحر فارس إنذار الحريق، ارتدت هندام المهام، وصعدت إلى سيارة الإطفاء، وكانت أول من يجلس بانتظار بقية الزملاء. سحر كما يصفها زميلها في المركز وفيق السباعي "شغوفة بعملها وتحبه كثيراً، فتركض قبل الجميع عند سماع صفارة الإنذار، وهي مسعفة نشيطة... هي شهيدة الواجب بكلّ معنى الكلمة". يذكر السباعي صفة "الشهيدة" فقد تأكدت وفاة سحر بعد العثور على جثمانها، فيما رفاقها ما زالوا في عداد المفقودين رسمياً.
كان مع سحر في هذه المهمة كلّ من شربل كرم، وإلياس خزامي، ورامي الكعكي، ونجيب حتي، وشربل حتي، وجو بو صعب، ورالف ملاحي، وجو نون، ومثال حوا. انطلقوا جميعاً إلى مكان الحريق، ليفاجؤوا بما هو أكبر بكثير من مهمة عادية. يقول السباعي: "عندما لاحظت المجموعة حجم الدخان الضخم، طلبت الدعم من المركز هنا، وفي الوقت الذي كنا نركض فيه نحو السيارات، سُمع دويّ الانفجار الأول، وبعدها شهد المركز عاصفة قذفتنا إلى داخل ممرات السيارات، وبعدها لم نعد نشعر بشيء من حولنا، كأنّنا في قلب ضباب أسود يحيط المكان بأكمله".
يشير السباعي إلى أنّهم في المركز لم يعرفوا بما حصل، وفُقد الاتصال بالفريق الذي ذهب إلى المرفأ. وفي تلك اللحظات الصعبة بدأ رجال الإطفاء في إنقاذ المصابين في المركز الذي تعرض لعصف الانفجار، متأثرين بتحطم الزجاج، كما أصيب بعضهم من جراء سقوط الحائط داخل المبنى. وهرع كثيرون من بينهم لإنقاذ الجرحى، على الطريق السريع الخارجي، المواجه للمركز، على جسر "شارل حلو" حيث كانت جثث كثيرة أيضاً.
بعد الاستيقاظ من الصدمة، توجه فريق من المركز مباشرةً إلى موقع الانفجار. يصف السباعي تفاصيل مرعبة: "كنا في حالة ذهول وخوف. نصف عقلنا يسأل أين زملاؤنا؟ أين الفريق؟ والنصف الآخر يشاهد الجثث على الأرض ويبدأ في محاولة إطفاء الحرائق التي تسبب بها الانفجار". وفي حين بقي مصير الفريق مجهولاً لساعات، عثرت فرق الإنقاذ على الشابة سحر فارس: "عُثر على سحر بملامح شبه مختفية من الانفجار. عرفناها من بدلة الإطفاء وبعض ملامحها، وكانت مبتورة اليد والقدم. أما مصير التسعة الآخرين فما زال مجهولاً". يصمت ثم يقول: "عندما يبلغوننا أنّهم عثروا على شيء يخص فريقنا المفقود، يتسارع نبضنا، ويمتلئ أملاً بأن يكون أحدهم ما زال على قيد الحياة". وعن "الأبطال العشرة" يقول السباعي: "نحن أكثر من أخوة. نحن نعيش مع بعضنا البعض هنا في المركز أكثر مما نعيش مع عائلاتنا. نأكل معاً ونضحك معاً ونركض لتلبية نداء الواجب معاً. صبّر الله عائلاتهم، لا أقول أكثر".
ويؤكد السباعي أنّ مركز إطفاء بيروت لم يواجه حادثة مثل هذه من قبل، لكنّه لا يغفل عن توجيه اللوم والاتهام إلى مسؤولي المرفأ الذين أرسلوا زملاءه في مهمة مميتة: "عندما يُرسَل فريق إنقاذ إلى مرفق عام تابع للدولة ولا يجد أيّ شخص يؤمّن له طريقه أو يفتح العنبر، فهي مهزلة... هذا إهمال كبير، كأنهم يقولون لهم: اذهبوا إلى الموت". ويختم السباعي متحسراً: "هم يعرفون ما الذي كان موجوداً في العنبر رقم 12. أما نحن فلو كنا نعرف أنّ هناك مواد متفجرة خطيرة، لكان الفريق أخلى المكان وطلب من الجهات الأمنية إخلاء المنطقة المحيطة بالمرفأ... هم كان يعرفون أنّ رفاقنا لن يعودوا إلّا جثثاً".