لقد كنّا سعداء
أراقب ذلك المشهد الفوضويّ المتكرّر، وأنا واقف على مقربةٍ في انتظار ابنتي "أسماء" ذات الثماني سنوات، فأنزعج وأغضب وأحزن وأتشاءم.. ولا تنبسط أسارير وجهي إلاّ عندما ألمح صغيرتي، وهي تصارع أمواج الكبار والصغار، وتبحث عن ثغرات تتسرّب منها برشاقة، ثمّ يشرئبّ جيدها لتبحثَ عنّي فتراني ألوّح لها بيدي. وعندئذ تبتسم ابتسامتَها العذبةَ التي تنعش روحي، وأتقدّم لأنتشلها من ذلك الزحام الخانق، وأعود بها إلى البيت المعلّق بالطابق الثاني غير بعيد عن الأرض.
***
تسألني أسماء: من كان يصطحبك في الطريق؟ فأروي لها ما تيسّر من ذكريات الماضي الجميل...
لم يكن ينتظرني أحد أمام باب المدرسة.. كان جدّي يعمل كامل النهار، وجدّتي في البيت، أو في الحقل.. فكنتُ أذهب مع الذاهبين وأعود مع العائدين مشياً على الأقدام وهرولةً وعدْواً إذا تسابقنا... لا سيّارات في طريقنا، ولا ازدحام ولا شتائم من سائق متشنّج..
ماذا بقي من تلك الأيام؟.. مشاهد قليلة لا علاقة لها بالدفاتر والدروس...
كنتُ أخرج من الفصل مع رفاق الحيّ وفي عقولنا الصغيرةِ قائمةٌ طويلةٌ من المشاريع، نسابق الزمن لتحقيقها.. الكلّ يجري إلى البيت، ومن باب السقيفة يلقي بالمحفظة، ويخرج كزوبعةٍ هائجةٍ إلى البطحاء حيث نلتقي لإنجاز المشروع اليوميّ القارّ: كرة من القراطيس أو من القماش أو من البلاستيك نتنازعها لنسجّل بها تلك الأهداف التي تسعد قلوبنا.. وعندما يرتفع صوت الأذان من المسجد القريب، تنتهي المقابلة، فلا أحد منّا يجرؤ على البقاء خارج البيت بعد المغرب.
كانت سعادة ذلك الطفل الذي يكتب هذه السطور الآن أكبر من أن تصفها الكلمات...
لا أرى اليوم أطفالا يلعبون في البطحاء... لقد تغيّر كلّ شيء.