04 نوفمبر 2024
للفلسفة أيضاً ربيعها
شبّه سقراط عمله بعمل أمه القابلة، مع فارق أنها تولد النساء، أما هو فيولد العقول. وعبر التركيز على قضايا الإنسان والمجتمع، وباستخدام أسلوب الحوار الذي ارتبط باسمه، بلغت الفلسفة مع سقراط عصرها الذهبي، بقدر اقترابها من الجمهور وقدرتها على مخاطبة الحس المشترك. أدرك سقراط أن بداخل كل منا فيلسوفاً بمعنى ما، لذا ينبغي ألا يفاجأ من يعتقد بفرادة أفكاره أنه، ومن دون وعي منه، يلتقي مع أحد الفلاسفة الكبار، بيد أن للفيلسوف من الخبرة ما يتيح له التعبير عن تلك الآراء بوضوح وعمق، وأن يضفي عليها قدراً مناسباً من الاتساق المنطقي.
اليوم، يبدو العداء للفلسفة جلياً في أبسط عبارات الحياة اليومية، ومفرداتها المتداولة، فما أن يبدأ أحد من التلاميذ، أو الأبناء، في توضيح وجهة نظره، أمام أحد المعلمين أو الآباء، أكثر مما تتيحه له ثقافة الطاعة السائدة، حتى يواجه بعبارة "كفى فلسفة"، فلا تعدو الفلسفة هنا أكثر من كونها كلاماً فارغاً عديم المعنى. لا تبعث الفلسفة على الطمأنينة، لذا تثير دائما قلق السلطات الاجتماعية والسياسية والدينية، فما أن تحرك الدهشة الفضول المعرفي للبحث عن الحقيقة، حتى تولد الإجابة تساؤلات جديدة. فلا توفر الفلسفة المسلمات التي يراها بعضهم ضرورية للعثور على تلك الطمأنينة الزائفة، الناجمة عن التكيف مع المحيط، بقدر ما تعوّل على النشاط العقلي الحر ونتائجه المغايرة.
من عملي بتدريس الفلسفة، وجدت أن أكثر ما يشغل بال الطلاب، ويكون، في الوقت نفسه، مصدرا لتذمرهم، هو: لم لا توجد إجابة واحدة عن السؤال الفلسفي المتعلق بإشكالية واحدة؟ من المفيد دائما إقناعهم بأن أول ما نتعلمه من الفلسفة هو نسبية الحقيقة، وأن نتقبل الاختلاف، ونعتاد سماع ما لم نعتد سماعه، حتى الآن، وأن صياغة السؤال الفلسفي هي أهم من أي إجابات ممكنة لهذا السؤال. تحتاج، أيضاً، إلى الوصول معهم إلى اتفاق، على أن الإنسان عدو ما يجهل، وأن من حق الفلسفة احتكار مصطلحات فنية خاصة، إسوة بغيرها من العلوم. مع المضي قدما، يبدأ الطلاب بالمشاركة في الحوارات مع زملائهم، متحمسين للتنوع في الآراء، على حساب ما اعتادوه عبر ثقافة "اليونيفورم" من الاتفاق السهل على رأي واحد. ومسرورين بالنقاش الحر الذي لم يتوفر سابقاً لكثيرين منهم، يعبّرون عن مكنونات أنفسهم ومخزونات عقولهم، بل يضفي التلعثم ببعض المصطلحات الفلسفية أجواء من المرح لا تنسى، كما المصطلح نفسه. وإذا كنت على قدر كاف من الاتزان العقلي والنفسي، لمجابهة الصورة النمطية المكرسة عن دارسي الفلسفة، تستطيع أن تكسب، مع الوقت، محبة أعدادامتزايدة من الطلاب للفلسفة. طبعاً، عليك ألا تأمل في كسب الأعداد نفسها من أولياء أمورهم، فضلاً عن اضطرارك لتحمل مضايقات مستمرة من بعض زملائك من مدرسي التربية الدينية.
لعب الموروث الثقافي الديني دوراً في الموقف السلبي والعداء المستمر للفلسفة. يصف أبو القاسم صاعد الأندلسي (التعريف بطبقات الأمم)، الحال التي آلت إليها الفلسفة كما تجسدها لحظة المنصور بن عامر، الذي أحرق كتب الفلاسفة: "وفعل ذلك تحبباً إلى عوام الأندلس (...) إذ كانت تلك العلوم مهجورة عند أسلافهم، مذمومة بألسنة رؤسائهم، وكان كل من قرأها متهماً عندهم بالخروج من الملّة، ومظنوناً به الإلحاد في الشريعة، فسكن أكثر من تحرك إلى الحكمة عند ذلك، وخملت نفوسهم، وتستروا بما كان عندهم من تلك العلوم". حسم تحالف رجالات الدين ذوي الذهنية النصية مع السلطة السياسية، الصراع على المجال العام، وأقصي الفيلسوف خارجه. ما دفعه إلى التقيّة، ليصبح النص الفلسفي مرمزاً متعدد الإشارات والدلالات، بدل أن يلجأ إلى العبارة التقريرية المباشرة، فوجد العوام صعوبة في فهم النص الفلسفي، تضاف إلى الصعوبة التي وجدوها في الاعتراف بهذا النص وقبوله. هكذا ظلت الفلسفة حكراً على النخبة المثقفة، وحرمت امتدادها الأفقي. ولجأ فلاسفة إلى محاولة ترويج بضاعته الراكدة، بين الجمهور عبر امتطاء حصان الطب (ابن سينا وغيره)، بينما ركب آخرون حصان الأدب (أمثال: مسكويه وابن زرعة وابن العميد وأبي الحسن العامري وأبي الحيان التوحيدي).
تحرّرت أوروبا من الموروث القروسطي المعادي للفلسفة، وكانت قيم فلسفة الأنوار التي تشربتها الجماهير الغربية حجر الزاوية في الحداثة، وأما صعوبات تقبل الفلسفة في المجتمعات الغربية اليوم، فيمكن ردها إلى هيمنة العلوم التطبيقية، وتعاظم دور العلوم الإنسانية كالنفس والاجتماع وغيرها، لتتوارى الفلسفة خلف مجالات أكثر تخصصا، كالإبيستمولوجيا وفلسفة اللغة وغيرها. لكن، يبقى للفلسفة شأنها، فقد نجحت الفلسفة الوجودية في أن تحقق انتشاراً واسعاً خارج أوساط المختصين في النصف الثاني من القرن العشرين، ما مكّنها من أن تلعب دوراً كبيراً في صياغة تحولات عديدة مهمة، شهدتها القارة الأوروبية، لاسيما فرنسا، وكانت فعالة في تجاوز مأساة حربين عالميتين. فعبر توظيف الأدب، كان الطابع العاطفي والتركيز على التجربة الذاتية وعلى اليومي المعاش عناصر مهمة، ساعدت هذه الفلسفة على أن تقتحم قلوب وعقول غير المختصين من الجمهور، وبرز عديدون من فلاسفتها بوصفهم فلاسفة أدباء، أو أدباء فلاسفة، كجان بول سارتر وألبيركامو.
في العام 2002، أطلق الفيلسوف الفرنسي، ميشال أونفراي، مبادرته لإنشاء جامعة "كاين الشعبية" للمساهمة في إخراج الفلسفة من أسوارها الأكاديمية، لتكون متاحة للجميع. وفيما يبدو استلهاما لتجربة أونفراي، أطلق "اتحاد طلاب من أجل تغيير النظام التعليمي" في المغرب، منذ حوالي العامين، مبادرة عرفت بـ (الفلسفة في "الزنقة")، بدأت فعالياتها في الرباط، لتمتد لاحقاً الى مدن أخرى، كالدار البيضاء وتطوان وفاس وطنجة ومكناس، وربما غيرها. تلاميذ وطلاب جامعات وأكاديميون، أخرجوا الفلسفة من صفوف الدراسة الثانوية ومدرجات الجامعات إلى الزنقات (الشوارع)، ليتناقشوا في الهواء الطلق وسط الجماهير، في قضايا الدين والأخلاق والعلمانية والحب والحرية والسياسة وغيرها، وبدأت الجماهير بالتفاعل معها والانضمام إليها. لم يسلم أولئك طبعا من مضايقات رجال الأمن، أو احتجاجات بعض مشايخ الدين، لكنهم نجحوا، حتى الآن، في الصمود والحفاظ على سلمية هذه الفعاليات. وأخيراً، دخلت القضية إلى أروقة البرلمان، ليطالب بعض النواب الحكومة باحتضان هذه التجربة، وإدراك ما فيها من إيجابيات.
من دون تراكم معرفي في مدى زمني قد يطول، علينا ألا ننتظر من تلك الظاهرة البدء في إنتاج معرفة فلسفية، وإلا فنحن نحمّلها أكثر مما تحتمل. لكن الاعتراف بالآخر وثقافة الحوار وما توفره من لغة للتبادل الفكري، التفكير العلمي والشك والتدرب على ممارسة النقد، عدم الخضوع للمسلمات وعدم الاستسلام للقوالب النمطية الجاهزة، وفوق ذلك كله، الإيمان بنسبية الحقيقة ورفض احتكارها، هي قيم باتت ضرورية للوعي الجمعي العربي، كان غيابها سبباً في تكريس كل أشكال الاستبداد والتطرف. ويوفر تضييق المسافة بين الثقافتين النخبيّة والشعبية فرصة ملائمة لترويج هذه القيم.
ظاهرة (الفلسفة في "الزنقة") نموذج مجتمعي مهم، يعيد إلى الفلسفة اعتبارها كنشاط عقلي حر، يقتحم المجال العام، ويخاطب الحس المشترك، حيث بات من الملحّ في هذه الفترة، الأكثر اضطرابا، من تاريخ منطقتنا العربية، التأسيس لنماذج اجتماعية إيجابية فاعلة وتعميمها، ويحتاج ذلك إلى توافر قناعة، وإعلام عربي موضوعي، علها تكون بداية لربيع عربي من نوع آخر.