تزوّجت منال منذ عشر سنوات، ولا تزال ذاكرتها قوية لتعود إليها كلّما اشتد عليها غلاء الأسعار، فتحن للعشر سنوات الأولى من الألفية الثالثة، حين كان سعر زجاجة الزيت من الحجم الكبير يصل إلى سبعة عشر جنيهًا، وكان كيلو اللحم البلدي من أجود الأنواع يبلغ سعره 37 جنيهًا، أما السكّر والأرز والدقيق فكان سعرهما يزيد عن الجنيهين بقليل، عشر سنوات مرّت على الزواج، تغيّرت منال، وكذلك مصر، طفلان كانا نتاج سنوات الزواج العشر، وثورتان وثلاثة أنظمة في أم الدنيا، وزاد عليهم مؤخرًا الغلاء الفاحش.
خمسمائة جنيه مصري فقط لا غير، كان مصروف المنزل شهريًا في بداية زواجها، صار لا يكفيها الآن عشرة أضعافه، فرغم زيادة مصادر دخلها وزوجها إلا أن ما يواجهانه من ارتفاع حاد في أسعار السلع الغذائية والاستهلاكية في مصر، زيادة الراتب لا تستطيع معه صبرًا، "الحياة أصبحت مستحيلة؛ لا أسعار ثابتة؛ ولا رقابة على الأسواق والمبرّر واحد على ألسنة الجميع، هو زيادة الدولار".
عبر مواقع التواصل الاجتماعي، اعتادت منال ألا تتكلّم في السياسة، لا تنشر، ولا تعلّق، وارتضت موقع الكنبة، لكن مؤخرًا قرّرت أن تقود حملة لمقاطعة الدواجن بعد أن ارتفعت أسعارها بشكل مبالغ فيه، من 22 جنيهًا للكيلو غرام إلى 37 جنيهًا، وفي بعض المناطق يتجاوز الـ 40 جنيهًا، تعلق بالقول: "خليهم يأكلوها".
على موقع التواصل الاجتماعي فيسبوك، نشرت منال، تلك القصّة التي تدور أحداثها في الأرجنتين، حين ارتفعت أسعار البيض، فقاطع الشعب تجّار البيض أسبوعًا، فكسدت مبيعاته، واستمرت المقاطعة ففسد، فسارع التجار لتخفيض الأسعارعمّا كانت عليه قبل الغلاء، لكن الشعب استمرّ في قراره، إلى أن انخفضت أسعاره إلى أكثر من 75%.
في ساعات قليلة شاركت صديقات منال قصّتها، ومعها بعض الإضافات عن جدوى المقاطعة وعن نجاح السعوديين في حملة "خليها تعفّن"، حين قرّروا التوقّف عن شراء الدجاج بعد رفع ثمنه، وعن المقاطعة الساداتية الشهيرة حين منع الرئيس المصري شراء اللحوم لمدّة شهر عقابًا للقصابين على رفع أسعارها، فعادت الأوضاع كما كانت، لكن نسيت منال وأصحابها أن لا سادات في مصر اليوم، وأن المصريين لا يجيدون رقصة التانغو الأرجنتينية ولا المقاطعة.
"بلاها لحمة"، الحملة التى دشنها مصريون قبل عام تنديدًا برفع أسعار اللحوم التي وصلت إلى 120 جنيها للكيلو، بعد أن كانت تتراوح أسعارها بين الـ 80 والـ 100 جنيه، انتهت المدّة المقرّرة للحملة بثلاثة شهور، ووصل سعر اللحوم اليوم إلى 140 جنيهًا في المناطق الشعبية، ليزيد عن ذلك في أماكن أخرى.
"مش هناكل حلاوة المولد"، حملة أخرى رفع شعارها المصريون بعد ارتفاع أسعار السكر والذي وصل رسميًا إلى 12 جنيهًا، وفي المحلّات الخاصّة نحو 15 جنيهًا، وهو ما شكّل تهديدًا لموسم حلاوة المولد، لكن ليس بحسب ما يدعيه البعض بأنه نجاح لفكرة المقاطعة، وليس كما يراه الحاج عبد القادر أحد صنّاع الحلوى الموسمية"، كل الناس كانت بتشتري لكن الاختلاف كان في الكميات، اشتروا على قد فلوسهم".
في مصر لا تنجح المقاطعة الاقتصادية للسلع مهما ارتفعت أسعارها، كما تفسر داليا، ربّة المنزل التي استغنت عن نصف الكميات التي كانت تشتريها، من منتجات اللحوم الحمراء والبيضاء في مقابل أن يستمر أطفالها في أكلها، "كنت بشتري 3 كيلو لحمة في الشهر و4 فرخات، دلوقتي بشتري 2 كيلو لحمة وفرختين بس، مينفعش أحرم ولادي من الأكل".
نجاح حملة مقاطعة بيضة "كيندر" للأطفال، وتخفيض سعرها الذي وصل إلى 18 جنيهًا إلى ما دون التسعة جنيهات مرّة أخرى، لم يغر المواطنين بالفكرة كما يتحدّث أشرف" دي حاجة ترفيهية للأطفال ممكن الاستغناء عنها بشكل أو بآخر، لكن مش أكل واحنا فى مصر مفيش حاجة مخليانا صابرين على الهمّ غير اللقمة اللي بناكلها لو بطلناها هنصبر ليه".
من جهتها قرّرت سامية أن تقاطع كل السلع التي لم يعد في مقدورها شراؤها، والتحوّل شيئا فشيئا إلى النظام النباتي، كأسلوب حياة مريح "وعلى قد الإيد"، كما تصفه "أنا نباتية من بتوع الفول والطعمية والبصارة والعدس، مش الشوفان وحليب اللوز والأفوكادو"، تضحك سامية وهي تروي بمرارة: "لو اللحمة رخصت هترخص كام يعنى خلاص الكلمة دي لازم نمحيها من قاموسنا..هناكلها في الجنّة".
في ديسمبر/ كانون الأول الماضي، استعانت الحكومة المصرية برئيس جهاز حكومة المستهلك ليقنع المواطنين أن نجاح محاولات ضبط الأسعار يعتمد على قدرة المواطن على اتخاذ قرار المقاطعة، وهو ما يراه أمير الكومي، الخبير الاقتصادي "إفلاسًا" من الدولة في مواجهة مشاكلها وتحميلها للمواطنين، مؤكدًا أن أسعار جميع السلع وليس الغذائية فقط، قد ارتفعت لنحو 90 % ومن المتوقّع أن يستمر الارتفاع، "المصريون لا يؤمنون بهذه الثقافة، على العكس البعض منهم يعطي للتجّار العذر في رفع السعر بحجّة خسارة رأس المال الأصلي"، الكومي أكد أن المقاطعة الشعبية للسلع لا تؤخذ على محمل الجد من الأساس"، أنا شخصيًا أعرف ناس بينشروا على صفحاتهم عن المقاطعة وضرورة محاربة جشع التجار، وفي الوقت نفسه لم يغيّروا عاداتهم الشرائية أبدا".