02 نوفمبر 2024
لماذا يحتجّون في مصر؟
بعد سنوات من الصمت المطبق، والقبول الظاهر بهيمنة المشير عبد الفتاح السيسي وأعوانه على المجال العام، ظنّ متابعون للأوضاع في مصر أنّ النظام الحاكم سيبقى ويتمدّد عقودا من دون أن يشهد انتفاضة ضدّه. وعلّلوا ذلك بنجاح هذا النظام السلطوي في تصحير الحياة السياسية، عبر تحييد المعارضين، أو تعقبهم أو اعتقالهم أو تهجيرهم، وكذا بقدرته على ترويج خطاب التفويض، ومنطق وصاية الرئيس على النّاس. وتأكّد ذلك بتمرير التعديلات الدستورية التي شرعنت الانقلاب، ومنحت الرئيس صلاحياتٍ واسعة، وفسحة زمنية مديدة لحكم البلاد. ولكنّ ما حصل بداية من 20 سبتمبر/ أيلول 2019 أربك توقّعات المراقبين للشأن المصري، وصدم أنصار النظام الحاكم والمشرفين على آلته الإعلاميّة المضلِّلة. ومردّ الصدمة أنّ عددا مُعتبَرا من المصريين كسروا حاجز الصمت وجدار الخوف، ونزلوا إلى ساحات عامّة وشوارع، رافعين شعارات احتجاجيّة مباشرة دالّة، في مقدّمتها: الشعب يُريد إسقاط النّظام /ارحل/ كفاية.... والسؤال المركزي هنا: لماذا عاد مصريون إلى ميادين الاحتجاج بعد غيبة طويلة؟
اعتلى الجنرال عبد الفتّاح السيسي السلطة بقوّة العسكر، واغتنم ضيق طيفٍ من النّاس من الأداء الحكومي للإسلاميين، وفشلهم في إدارة الأزمة الاقتصاديّة في البلاد ليّقدّم نفسه بديلا عن الإخوان المسلمين. ووعد المصريين بأنّه سيحافظ على المسار الديمقراطي، وسيُخرج البلاد من ضائقتها التنموية، وسيجعل مصر أمّ الدنيا بامتياز. وبعد ستّ سنوات من الانقلاب العسكري على الشرعية الانتخابيّة، بدا أنّ تلك الوعود لم تتحقّق، وهو ما أفضى بالنّاس إلى النزول إلى الشوارع من جديد. عمليّا، استغلّ المشير يافطة مكافحة الإرهاب، ودعاية التفويض الشعبي ليشنّ حرْبا لا
هوادة فيها على كلّ معارضيه. ولم يقتصر الأمر على تصفية الجماعات المسلّحة، بل تجاوز ذلك إلى التنكيل بجماعة الإخوان المسلمين باعتبارها قوّة احتجاجيّة، ومنافسا جدّيا على الحكم.، فجرى توزيع أنصارها بين السجون، والمقاصل، والمنافي. ولم تقف سياسات القمع عند هذا الطيف من المصريين، بل طاولت يساريين، وليبراليين، وحقوقيين، ونقابيين، وإعلاميين، جريرتهم أنّهم مارسوا حقّهم في التنظم أو التجمّع أو التظاهر، أو أنهم نقدوا المؤسّسة العسكرية، أو خالفوا النظام الحاكم، أو عبّروا عن نيّتهم منافسة السيسي سلميّا على السلطة، فتمّ زجّهم في المعتقلات، وتلفيق تُهم مفبركة لهم بعد إحالتهم على محاكمات اعتباطية، غير عادلة. ومن ثمّة تراجعت الحرّيات العامّة والخاصّة على نحو غير مسبوق في تاريخ مصر، وبلغ عدد سجناء الرّأي ستّين ألفا ويزيد بحسب تقارير منظّمات حقوقية مصرية ودولية موثوقة. كما جرى حجب مئات المواقع الإلكترونية، وغلق مكاتب أحزاب، ومنظمات مدنية، وأقنية إذاعية تلفزية بدعوى إخلالها بقانون الطوارئ. وبذلك، تحوّلت مصر إلى سجن كبير. ومعلوم أنّ الكبت يؤدّي إلى الانفجار. ضاق معظم المحكومين بانسداد المجال السياسي، وأدركوا أنّ دولة الانقلاب خطفت منهم مكاسب ثورة يناير2011، خصوصا ما تعلّق بالتعدّدية، والديمقراطية، وحرّية التنظّم والتعبير فنزل مُتظاهرون إلى ميادين الاحتجاج في محاولةٍ لتحرير الإرادة الشعبية من سطوة العسكر، وتعبيرا عن اعتراضهم على الحكم الفرداني وسياسات الدولة الشمولية، فالقمع ولّد وعي القمع ودفع المحتجّين إلى التنادي بضرورة رحيل رأس النظام (إرحل يا سيسي) أو تغيير النظام جملة وتفصيلا (الشعب يُريد إسقاط النّظام) بحثا عن أفق سياسي تعدّدي جديد.
من الناحية الاقتصادية، لم تكن حصيلة حكم السيسي في المستوى المأمول، فدُيون مصر تضاعفت مرّات منذ سنة 2013، حتّى أصبحت البلاد رهينة الصناديق المالية. وانخرط النظام، نتيجة ذلك، في اعتماد سياساتٍ تقشفيةٍ أرهقت المواطنين، وأضرّت الطبقة الوسطى، وضعاف الحال. ويُفيد تقرير صادر حديثا عن البنك الدولي بأنّ 30% من المصريين يعيشون تحت خطّ الفقر(لا يتجاوز دخلهم دولارين يوميّا)، و33% يقتربون من خطّ الفقر المدقع. وهو ما يُخبر بتلاشي الطبقة الوسطى، واتساع دوائر الخصاصة والفقر. ومعلوم أنّ تدهور المقدرة الشرائية، وغلاء الأسعار، وتجميد الأجور، وتفشّي البطالة مستجدات قاسية، مسّت المواطن المصري في قوته ومعاشه، ودفعته إلى الشعور بالإحباط والاستياء من النظام الحاكم وسياساته التنموية المُرتجلة. وتعمّق الاستياء الجَمعي من النظام الحاكم، بعد أن أدرك النّاس حجم استشراء الفساد المالي والإداري في أعلى هرم السلطة. وتأكّد ذلك عندهم لمّا تابعوا مقاطع الفيديو التي نشرها الفنّان ورجل الأعمال المصري محمّد علي. وكشف فيها بذخ الأسرة الحاكمة، وانشغال عبد الفتاح السيسي وبطانته في الجمع والمنع، وتشييد القصور، والمباني الفخمة، وبذْل المال في طلب الترفّه بدَل العمل على توسيع الرُّقع الزراعية، وتوفير خدمات القرْب للمواطنين، وإصْلاح معاشهم، وتحسين دُخُولهم. وكانت مُفارقةً صادمةً أن ينصح السيسي النّاس بالتقشّف، ويحثّهم على التبرّع للدولة، وهو يُنفق المال على مشاريع كمالية (قصور، فنادق، فِلَل)، لا تنفع عموم المواطنين. ولذلك انفضّ مصريون من حوله، وانتفضوا لأنّهم لم يقبلوا أن يُفرض عليهم الفساد والاستبداد في آن. وحزّ في أنفسهم أن تتمتّع قِلّة من المتنفّذين بالجاه، والنّفوذ، والرّفاه على حساب أغلبية أضناها الجوع، والفقر، وتكاليف الحياة. فههنا انضاف إلى الإحساس بالدونية، والعوز، والعطالة، واللاجدوى، شعورٌ بالحيف السلطوي. وأجّج ذلك كلّه الغضب الشعبي، وقدح الاحتجاج، فكانت الانتفاضة صرخة إدانة في وجه لوبيات الفساد وسياسات النظام المصري الجائرة.
في مستوى آخر، ساهم الوضع الإقليمي، بصفة غير مباشرة، في اندلاع الاحتجاجات في مصر،
ذلك أنّ الموجة الثانية من الرّبيع العربي تجلّت في حراك احتجاجي مستدام، مسالم في الجزائر. وأفضت في السودان إلى تقاسم السلطة بين عسكريين ومدنيين. وتبدّت في ليبيا من خلال استماتة شباب طرابلس في الدفاع عن مشروع الدولة المدنية في مواجهة جهود خليفة حفتر لاستعادة دولة العسكر. وتجسّدت في تونس من خلال ثورة الصناديق، وظهور مشهد سياسي جديد كرّس الدّمقرطة والتداول السلمي على السلطة. في المقابل، بدت مصر مُكبّلةً بسطوة الأجهزة البوليسية، معزولةً عن حركة التغيير والدمقرطة المشهودة في المنطقة. والثابت أنّ شباب مصر الصّاعد أدرك أنّه محرومٌ من حقّه في التعبير، والتنظّم، والتظاهر، وأنّه محكومٌ بوجوه قديمة، أدمنت الفساد والاستبداد. لذلك انتفض حتّى لا يظهر خارج التاريخ. بل منتميا إلى حركة التغيير الاحتجاجي المشهودة في الإقليم من ناحية. وانتفض تعبيرا عن شوقٍ شعبي لفكّ إسار الحكم الأحادي/ الشمولي من ناحية أخرى.
ختامًا، يُمكن القول إنّ أجهزة النّظام السلطوي في مصر بنَت طوال سنوات حاجز الرّعب المدجّج بالإعلام المُضلّل والسّلاح، وحكمت البلاد بخطاب التمويه، والترغيب، والترهيب، وارتكبت انتهاكات ضدّ كثيرين، حتّى أوشك الظلم أن يُصبح أعدل الأشياء قسمة بين النّاس. فراكم القمعُ الغضبَ في النفوس، وأنتج "انتفاضة القصور" التي رفعت الخوف من القلوب، وكسرت جدار الصمت، ومكّنت النّاس من استعادة سلطة الشارع، وحرّرت الحناجر بالاحتجاج على شخصياتٍ فاسدة وسياسات جائرة. وأحرى بالنظام الحاكم في مصر التقاط الرّسائل الاحتجاجية، والتجاوب مع تطلّعات المتظاهرين، والمبادرة بفتح المجال العام، ومكافحة الفساد، واحترام الحرّيات العامّة والخاصّة، وإطلاق سراح سجناء الرّأي بغاية تهدئة الأوضاع، والتخفيف من الاحتقان المشهود بين الحاكم والمحكوم. أمّا التمادي في إنكار الحالة الاحتجاجية، وتشويهها، والتعتيم عليها، فهروب إلى الأمام سيزيد من اتّساع الفجوة بين السلطة والنّاس، ويدفع البلاد نحو مزيد التأزيم لا محالة.
من الناحية الاقتصادية، لم تكن حصيلة حكم السيسي في المستوى المأمول، فدُيون مصر تضاعفت مرّات منذ سنة 2013، حتّى أصبحت البلاد رهينة الصناديق المالية. وانخرط النظام، نتيجة ذلك، في اعتماد سياساتٍ تقشفيةٍ أرهقت المواطنين، وأضرّت الطبقة الوسطى، وضعاف الحال. ويُفيد تقرير صادر حديثا عن البنك الدولي بأنّ 30% من المصريين يعيشون تحت خطّ الفقر(لا يتجاوز دخلهم دولارين يوميّا)، و33% يقتربون من خطّ الفقر المدقع. وهو ما يُخبر بتلاشي الطبقة الوسطى، واتساع دوائر الخصاصة والفقر. ومعلوم أنّ تدهور المقدرة الشرائية، وغلاء الأسعار، وتجميد الأجور، وتفشّي البطالة مستجدات قاسية، مسّت المواطن المصري في قوته ومعاشه، ودفعته إلى الشعور بالإحباط والاستياء من النظام الحاكم وسياساته التنموية المُرتجلة. وتعمّق الاستياء الجَمعي من النظام الحاكم، بعد أن أدرك النّاس حجم استشراء الفساد المالي والإداري في أعلى هرم السلطة. وتأكّد ذلك عندهم لمّا تابعوا مقاطع الفيديو التي نشرها الفنّان ورجل الأعمال المصري محمّد علي. وكشف فيها بذخ الأسرة الحاكمة، وانشغال عبد الفتاح السيسي وبطانته في الجمع والمنع، وتشييد القصور، والمباني الفخمة، وبذْل المال في طلب الترفّه بدَل العمل على توسيع الرُّقع الزراعية، وتوفير خدمات القرْب للمواطنين، وإصْلاح معاشهم، وتحسين دُخُولهم. وكانت مُفارقةً صادمةً أن ينصح السيسي النّاس بالتقشّف، ويحثّهم على التبرّع للدولة، وهو يُنفق المال على مشاريع كمالية (قصور، فنادق، فِلَل)، لا تنفع عموم المواطنين. ولذلك انفضّ مصريون من حوله، وانتفضوا لأنّهم لم يقبلوا أن يُفرض عليهم الفساد والاستبداد في آن. وحزّ في أنفسهم أن تتمتّع قِلّة من المتنفّذين بالجاه، والنّفوذ، والرّفاه على حساب أغلبية أضناها الجوع، والفقر، وتكاليف الحياة. فههنا انضاف إلى الإحساس بالدونية، والعوز، والعطالة، واللاجدوى، شعورٌ بالحيف السلطوي. وأجّج ذلك كلّه الغضب الشعبي، وقدح الاحتجاج، فكانت الانتفاضة صرخة إدانة في وجه لوبيات الفساد وسياسات النظام المصري الجائرة.
في مستوى آخر، ساهم الوضع الإقليمي، بصفة غير مباشرة، في اندلاع الاحتجاجات في مصر،
ختامًا، يُمكن القول إنّ أجهزة النّظام السلطوي في مصر بنَت طوال سنوات حاجز الرّعب المدجّج بالإعلام المُضلّل والسّلاح، وحكمت البلاد بخطاب التمويه، والترغيب، والترهيب، وارتكبت انتهاكات ضدّ كثيرين، حتّى أوشك الظلم أن يُصبح أعدل الأشياء قسمة بين النّاس. فراكم القمعُ الغضبَ في النفوس، وأنتج "انتفاضة القصور" التي رفعت الخوف من القلوب، وكسرت جدار الصمت، ومكّنت النّاس من استعادة سلطة الشارع، وحرّرت الحناجر بالاحتجاج على شخصياتٍ فاسدة وسياسات جائرة. وأحرى بالنظام الحاكم في مصر التقاط الرّسائل الاحتجاجية، والتجاوب مع تطلّعات المتظاهرين، والمبادرة بفتح المجال العام، ومكافحة الفساد، واحترام الحرّيات العامّة والخاصّة، وإطلاق سراح سجناء الرّأي بغاية تهدئة الأوضاع، والتخفيف من الاحتقان المشهود بين الحاكم والمحكوم. أمّا التمادي في إنكار الحالة الاحتجاجية، وتشويهها، والتعتيم عليها، فهروب إلى الأمام سيزيد من اتّساع الفجوة بين السلطة والنّاس، ويدفع البلاد نحو مزيد التأزيم لا محالة.