05 مارس 2023
لم يعرّج الجبير على أنقرة
لو كانت العلاقات التركية السعودية في سابق عهدها، وعلى ما كانت عليه قبل عامين مثلا، لكان العنوان المفترض لهذا المقال "الجبير يعرّج على أنقرة"، قادما من موسكو لبحث الملف السوري والعلاقات الثنائية. من شبه المستحيل أن يحضر وزير الخارجية السعودي، عادل الجبير، إلى موسكو لبحث آخر تطورات الملف السوري، وسيناريوهات معركة إدلب المحتملة، وأن لا يقصد أنقرة، الشريك الأهم للرياض في الملف السوري، منذ اندلاع الثورة السورية قبل سبع سنوات وحتى أمس القريب.
كانت تركيا قبل أعوام تحذّر إيران، بسبب طريقة تعاملها مع الملفات الخليجية، وكانت تقول إنها لن تقف إلى جانبها على حساب علاقاتها مع السعودية ودول الخليج، لكن تركيا اليوم باتت تقول إنها لن تغامر وتضحّي بعلاقاتها مع الجار الإيراني، وتقف إلى جانب الرياض في مواجهتها مع طهران، على حساب مصالحها وعلاقاتها التجارية والسياسية والأمنية مع إيران. بين أسباب عدم توجه الوزير الجبير إلى العاصمة التركية التقارب التركي الإيراني، وأن أنقرة لا تأخذ بما تقوله السعودية في خطورة السياسات الإيرانية على المنطقة.
الجبير في موسكو لمناقشة موضوع مواصلة النظام السوري استعداداته، بدعم روسي وإيراني، لشن هجوم على إدلب. وفي الوقت نفسه، يصل وزير الخارجية الإيراني، محمد جواد ظريف، إلى أنقرة في زيارة خاطفة، لبحث الملف نفسه، حيث استقبله الرئيس رجب طيب أردوغان، وهي لن تكون مصادفة.
كانت تركيا تقول، قبل أشهر، إن أردوغان قطع جولته الأفريقية للمشاركة في مراسم تشييع الملك الراحل عبد الله بن عبد العزيز، وأن الرهان التركي هو على قيادة سعودية جديدة بأداء وطرح واساليب مختلفة في التعامل مع الملفات والقضايا والأزمات، لكن الجبير يقول إن المحادثات مع القيادة الروسية كانت بنّاءةً، وحققت نتائج جيدة، وأن العلاقات السعودية الروسية تشهد نقلة نوعية في مجالات الاستثمار والتجارة والدفاع والتنسيق السياسي. قد يكون هذا أيضا كافيا ليس للحديث عن أهمية التقارب السعودي الروسي، بل لإبراز حجم التباعد التركي السعودي في نقاشات الملفات الإقليمية.
تشكّل الرياض تكتلا إقليميا ودوليا في وجه السياسات الإيرانية في المنطقة بالتنسيق مع الولايات المتحدة الأميركية، وهي مع ذلك لا تريد أن تفرّط بعلاقاتها مع موسكو. ليست أنقرة جزءا من هذا الاصطفاف والحراك السعودي الأميركي، إذا لم نشأ القول إن تركيا باتت في الطرف المقابل. ولا تريد موسكو، من ناحيتها، أن تخسر الثقل السعودي الإقليمي، فتفتح أبوابها على وسعها. وبدورها تذهب أنقرة إلى طهران، لتعزيز التقارب الثلاثي مع إيران وروسيا في الملفات الإقليمية. قد يكون الثمن باهظا على العلاقات التركية الغربية، وتركيا تعرف ذلك، لكنها لا تتراجع. هي تفعل ذلك من دون أن تتوقف أيضا عند ارتدادات التقارب التركي الإيراني على مسار العلاقات التركية العربية، والخليجية تحديدا. يتم الحوار التركي السعودي حول سورية في الآونة الآخيرة عبر موسكو، أو إحدى العواصم الغربية أو العربية، أو لاعبين محليين، باتت مصالحهم مهدّدة، بسبب مأزق الانحياز والخيار الصعب بين أنقرة والرياض.
كان بعض منا يمنّي النفس بزيارة من هذا النوع للجبير إلى العاصمة التركية تخفف التوتر، وتكون مقدمة لإعادة العلاقات التركية السعودية إلى سابق عهدها، لكن المؤشرات كلها تقول إن الرغبة السائدة في البلدين استمرار التباعد، والتمسّك ببناء تحالفات واصطفافات جديدة، حتى لو كان الثمن تعارض المصالح والحسابات. ونظرة خاطفة على جديد ما كتب في الإعلام السعودي، من قبيل إن "تركيا تمثل أحد أعمدة ثالوث الشر" يوضح حجم الاستنفار حتى في اوساط المعتدلين في الجانبين، ولماذا تصاعد الخلاف، وصار يظهر علنا، وسط حالة التيقظ الكامل للانقضاض عند أول فرصة سانحة.
لا أحد في أنقرة والرياض يريد العودة إلى الارشيف مثلا لمعرفة تاريخ آخر لقاء قمة أو اجتماع دبلوماسي رفيع عقد بين القيادات في الجانبين، لبحث قضايا ثنائية وإقليمية ساخنة، ويبقى الخيار البديل هو الحديث عن التفاهمات على الحد الأدنى المشترك. والمؤسف أكثر أن مقياس تقدّم العلاقات التركية السعودية وتراجعها بات تحت تأثير الشد والجذب في علاقات أنقرة والرياض مع طهران، لا بل إن العلاقات في هبوط دائم، وتكاد تصل إلى درجة من التراجع تترك أنقرة وطهران على مسافة واحدة بالنسبة للرياض. محاولات التجاهل أو جهود منظمات وهيئات اجتماعية، أو اقتصادية، غير كافية أمام القرار السياسي غير المعلن بنقل العلاقات إلى الثلاجة منذ أشهر طويلة.
هنأ العاهل السعودي سلمان بن عبد العزيز، وولي عهده محمد بن سلمان، الرئيس التركي أردوغان، بالذكرى الـ 96 لعيد النصر، في 30 أغسطس/ آب. وعبرا في برقيتيهما عن اصدق التهاني وأطيب التمنيات بالصحة والسعادة للرئيس ولحكومة جمهورية تركيا وشعبها الشقيق. ولكن هناك حقيقة أخرى، أن موقف أنقرة حيال الأزمة الخليجية والموقف السعودي من السياسة التركية حيال الثورة في مصر وسياسات تركيا في الخليج وأفريقيا والملف الفلسطيني وغزة ودخول المساعدات السعودية المالية إلى شرق سورية وأجواء التوتر الإقليمي والدولي، كلها مسائل ما زالت تحرّك سياسات التباعد، وتتحكّم بتوجيه دفّة القيادة نحو اتجاهات مضادة متنافرة.
الجبير الذي اقترب كثيرا من الأجواء التركية في أثناء وجوده في موسكو لم يعرّج على العاصمة التركية، فالذي يرصده الإعلام السعودي هو الانفتاح التركي الإيراني أكثر من غيره. أما الإعلام التركي فينقل يوميا مضمون مقالات في الصحافة السعودية، أو التي يكتبها مقرّبون من الرياض، عن الكارثة التي تحلّ بالليرة والاقتصاد التركيين، هذا وفي البال أنه، قبل عامين، كان الرئيس أردوغان يردّد أن بلاده ستدعم المملكة العربية السعودية ضد قانون "العدالة ضد رعاة الإرهاب" (جاستا)، والذي يسمح لعائلات ضحايا الهجمات الإرهابية بمقاضاة دول أجنبية، وكان يشيد بمسار العلاقات خلال تقليد الأمير محمد وسام الجمهورية التركية، ويدعو إلى رفع مستوى العلاقات بين البلدين. أما اليوم فتردّد نخب سعودية إن أردوغان وصل إلى "جنون العظمة" بحديثه عن انهيار الشرق الأوسط في حال انهيار تركيا. ويرى الرئيس التركي، في المقابل، أنه لا يوجد شيء اسمه "إسلام معتدل" أو "إسلام غير معتدل"، بل "إسلام واحد".
التحولات المتسارعة في الملفات الإقليمية التي تعني أنقرة والرياض دفعتهما إلى التخلي عن أساليب كلاسيكية معتمدة في سياستهما الخارجية، وألزمتهما باتخاذ قراراتٍ استراتيجية شبه حاسمة، قلبت حساباتهما هناك رأسا على عقب، والعلاقات التركية السعودية أول ما يدفع ثمن التحوّل الجذري في السياسات والأساليب في البلدين. وستتعقد الأزمة القائمة وتتشعب وتستمر، إلا إذا حدثت مفاجآت عكسية في الأيام القليلة المقبلة، كأن يحصل لقاء تركي - سعودي رفيع، لمناقشة تفاصيل العلاقات ومستقبلها على هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك، فهل تقع المفاجأة؟
عندما تغضب من أحدهم ابدأ العد قبل أن ترد، عد للعشرة إذا ما كان أصغر منك، وللثلاثين إذا ما كنتما في العمر نفسه، وللخمسين إذا ما كان أكبر منك. أما إذا ما كانت زوجتك فاستمر في العد ولا تتوقف أبدا. طالما أن التصعيد هو سيد الموقف في العلاقات التركية المصرية، فمن الصعب جدا أن نشهد التحول الإيجابي في مسار العلاقات التركية السعودية.. عودة العلاقات التركية السعودية إلى سابق عهدها ليست مشروع الغد.
كانت تركيا قبل أعوام تحذّر إيران، بسبب طريقة تعاملها مع الملفات الخليجية، وكانت تقول إنها لن تقف إلى جانبها على حساب علاقاتها مع السعودية ودول الخليج، لكن تركيا اليوم باتت تقول إنها لن تغامر وتضحّي بعلاقاتها مع الجار الإيراني، وتقف إلى جانب الرياض في مواجهتها مع طهران، على حساب مصالحها وعلاقاتها التجارية والسياسية والأمنية مع إيران. بين أسباب عدم توجه الوزير الجبير إلى العاصمة التركية التقارب التركي الإيراني، وأن أنقرة لا تأخذ بما تقوله السعودية في خطورة السياسات الإيرانية على المنطقة.
الجبير في موسكو لمناقشة موضوع مواصلة النظام السوري استعداداته، بدعم روسي وإيراني، لشن هجوم على إدلب. وفي الوقت نفسه، يصل وزير الخارجية الإيراني، محمد جواد ظريف، إلى أنقرة في زيارة خاطفة، لبحث الملف نفسه، حيث استقبله الرئيس رجب طيب أردوغان، وهي لن تكون مصادفة.
كانت تركيا تقول، قبل أشهر، إن أردوغان قطع جولته الأفريقية للمشاركة في مراسم تشييع الملك الراحل عبد الله بن عبد العزيز، وأن الرهان التركي هو على قيادة سعودية جديدة بأداء وطرح واساليب مختلفة في التعامل مع الملفات والقضايا والأزمات، لكن الجبير يقول إن المحادثات مع القيادة الروسية كانت بنّاءةً، وحققت نتائج جيدة، وأن العلاقات السعودية الروسية تشهد نقلة نوعية في مجالات الاستثمار والتجارة والدفاع والتنسيق السياسي. قد يكون هذا أيضا كافيا ليس للحديث عن أهمية التقارب السعودي الروسي، بل لإبراز حجم التباعد التركي السعودي في نقاشات الملفات الإقليمية.
تشكّل الرياض تكتلا إقليميا ودوليا في وجه السياسات الإيرانية في المنطقة بالتنسيق مع الولايات المتحدة الأميركية، وهي مع ذلك لا تريد أن تفرّط بعلاقاتها مع موسكو. ليست أنقرة جزءا من هذا الاصطفاف والحراك السعودي الأميركي، إذا لم نشأ القول إن تركيا باتت في الطرف المقابل. ولا تريد موسكو، من ناحيتها، أن تخسر الثقل السعودي الإقليمي، فتفتح أبوابها على وسعها. وبدورها تذهب أنقرة إلى طهران، لتعزيز التقارب الثلاثي مع إيران وروسيا في الملفات الإقليمية. قد يكون الثمن باهظا على العلاقات التركية الغربية، وتركيا تعرف ذلك، لكنها لا تتراجع. هي تفعل ذلك من دون أن تتوقف أيضا عند ارتدادات التقارب التركي الإيراني على مسار العلاقات التركية العربية، والخليجية تحديدا. يتم الحوار التركي السعودي حول سورية في الآونة الآخيرة عبر موسكو، أو إحدى العواصم الغربية أو العربية، أو لاعبين محليين، باتت مصالحهم مهدّدة، بسبب مأزق الانحياز والخيار الصعب بين أنقرة والرياض.
كان بعض منا يمنّي النفس بزيارة من هذا النوع للجبير إلى العاصمة التركية تخفف التوتر، وتكون مقدمة لإعادة العلاقات التركية السعودية إلى سابق عهدها، لكن المؤشرات كلها تقول إن الرغبة السائدة في البلدين استمرار التباعد، والتمسّك ببناء تحالفات واصطفافات جديدة، حتى لو كان الثمن تعارض المصالح والحسابات. ونظرة خاطفة على جديد ما كتب في الإعلام السعودي، من قبيل إن "تركيا تمثل أحد أعمدة ثالوث الشر" يوضح حجم الاستنفار حتى في اوساط المعتدلين في الجانبين، ولماذا تصاعد الخلاف، وصار يظهر علنا، وسط حالة التيقظ الكامل للانقضاض عند أول فرصة سانحة.
لا أحد في أنقرة والرياض يريد العودة إلى الارشيف مثلا لمعرفة تاريخ آخر لقاء قمة أو اجتماع دبلوماسي رفيع عقد بين القيادات في الجانبين، لبحث قضايا ثنائية وإقليمية ساخنة، ويبقى الخيار البديل هو الحديث عن التفاهمات على الحد الأدنى المشترك. والمؤسف أكثر أن مقياس تقدّم العلاقات التركية السعودية وتراجعها بات تحت تأثير الشد والجذب في علاقات أنقرة والرياض مع طهران، لا بل إن العلاقات في هبوط دائم، وتكاد تصل إلى درجة من التراجع تترك أنقرة وطهران على مسافة واحدة بالنسبة للرياض. محاولات التجاهل أو جهود منظمات وهيئات اجتماعية، أو اقتصادية، غير كافية أمام القرار السياسي غير المعلن بنقل العلاقات إلى الثلاجة منذ أشهر طويلة.
هنأ العاهل السعودي سلمان بن عبد العزيز، وولي عهده محمد بن سلمان، الرئيس التركي أردوغان، بالذكرى الـ 96 لعيد النصر، في 30 أغسطس/ آب. وعبرا في برقيتيهما عن اصدق التهاني وأطيب التمنيات بالصحة والسعادة للرئيس ولحكومة جمهورية تركيا وشعبها الشقيق. ولكن هناك حقيقة أخرى، أن موقف أنقرة حيال الأزمة الخليجية والموقف السعودي من السياسة التركية حيال الثورة في مصر وسياسات تركيا في الخليج وأفريقيا والملف الفلسطيني وغزة ودخول المساعدات السعودية المالية إلى شرق سورية وأجواء التوتر الإقليمي والدولي، كلها مسائل ما زالت تحرّك سياسات التباعد، وتتحكّم بتوجيه دفّة القيادة نحو اتجاهات مضادة متنافرة.
الجبير الذي اقترب كثيرا من الأجواء التركية في أثناء وجوده في موسكو لم يعرّج على العاصمة التركية، فالذي يرصده الإعلام السعودي هو الانفتاح التركي الإيراني أكثر من غيره. أما الإعلام التركي فينقل يوميا مضمون مقالات في الصحافة السعودية، أو التي يكتبها مقرّبون من الرياض، عن الكارثة التي تحلّ بالليرة والاقتصاد التركيين، هذا وفي البال أنه، قبل عامين، كان الرئيس أردوغان يردّد أن بلاده ستدعم المملكة العربية السعودية ضد قانون "العدالة ضد رعاة الإرهاب" (جاستا)، والذي يسمح لعائلات ضحايا الهجمات الإرهابية بمقاضاة دول أجنبية، وكان يشيد بمسار العلاقات خلال تقليد الأمير محمد وسام الجمهورية التركية، ويدعو إلى رفع مستوى العلاقات بين البلدين. أما اليوم فتردّد نخب سعودية إن أردوغان وصل إلى "جنون العظمة" بحديثه عن انهيار الشرق الأوسط في حال انهيار تركيا. ويرى الرئيس التركي، في المقابل، أنه لا يوجد شيء اسمه "إسلام معتدل" أو "إسلام غير معتدل"، بل "إسلام واحد".
التحولات المتسارعة في الملفات الإقليمية التي تعني أنقرة والرياض دفعتهما إلى التخلي عن أساليب كلاسيكية معتمدة في سياستهما الخارجية، وألزمتهما باتخاذ قراراتٍ استراتيجية شبه حاسمة، قلبت حساباتهما هناك رأسا على عقب، والعلاقات التركية السعودية أول ما يدفع ثمن التحوّل الجذري في السياسات والأساليب في البلدين. وستتعقد الأزمة القائمة وتتشعب وتستمر، إلا إذا حدثت مفاجآت عكسية في الأيام القليلة المقبلة، كأن يحصل لقاء تركي - سعودي رفيع، لمناقشة تفاصيل العلاقات ومستقبلها على هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك، فهل تقع المفاجأة؟
عندما تغضب من أحدهم ابدأ العد قبل أن ترد، عد للعشرة إذا ما كان أصغر منك، وللثلاثين إذا ما كنتما في العمر نفسه، وللخمسين إذا ما كان أكبر منك. أما إذا ما كانت زوجتك فاستمر في العد ولا تتوقف أبدا. طالما أن التصعيد هو سيد الموقف في العلاقات التركية المصرية، فمن الصعب جدا أن نشهد التحول الإيجابي في مسار العلاقات التركية السعودية.. عودة العلاقات التركية السعودية إلى سابق عهدها ليست مشروع الغد.