عند مدخل إحدى القرى الفلسطينية، يعود شابان من بلد أجنبي، بعد أن أنهيا دراستهما، ليجدا نفسيهما في مواجهة جدار يمنعهما من دخول مسقط رأسهما. لحظة تضعهما أمام رهان مشترك: تحطيم الجدار أو إحداث ثقب فيه، لكنها تضعهما، أيضاً، أمام اختلافهما في كيفية فعل ذلك.
بهذا الصراع تبدأ مسرحية "الجدار"، لفرقة "فرسان الركح"، التي شاركت أخيراً في مهرجان "عشيات طقوس المسرحية" في عمّان. يولد الصراع صغيراً بين الشابين، وهما باحث وفنان، ثم يكبر ليتحول إلى جدار آخر يحول دون تحطيم الجدار الإسمنتي. لكن مخرج العرض، عقباوي الشيخ، سيقلب الذهنيات في قراءته اللحظة، بحيث يتعاطى الباحث عاطفياً مع الموضوع، فيما يتصرف الفنان برزانة وحكمة.
هكذا، وفي لحظة جوع، يحتكمان إلى الأفكار لا الأذرع: "سنجد حلاً مناسباً. دعك من المشاعر، واقترب لنأكل، فقد نال منا الجوع". ليست فكرة الجوع حالة بيولوجية، هنا، بقدر ما هي وجودية تشير إلى "جوع" الإنسان لذاته، ورغبته في العودة إليها عارياً من أي زيف قد يجعله يشك في الانتماء إليها.
تلعب الموسيقى، التي أشرف عليها العربي بوشنتوف، دوراً حاسماً في تصعيد الجوّ، وإحالته على الأحلام، حيث يدخل الشاب الباحث في نوبة طفولية يتذكر فيها جذور ارتباطه بالمكان وأهله، بلغة مجنحة، فلا ندري إن كان ذلك واقعاً أم خيالاً. إنها اللحظة التي تغري الفنان، فيتخلى عن رزانته، ويعود إلى تعاطيه العاطفي مع الأمور، في مقابل عودة الباحث إلى التفكير المنهجي، ليتأجّج الصراع بينهما من جديد.
الفنان ظهر في هذا المفصل من العرض موغلاً في الكذب والزيف والأنانية، وهي قيم جعلت قابليته للخيانة جاهزة، ما يجعل الباحث العقلاني يتشبث بطروحاته، ويدرجها ضمن خانة "لا يُناقش"، وهو تناول من الصعب تبريره فنياً وإنسانياً، لما فيه من تعسّف في حق النخبة المثقفة، التي واكبت سؤال الحرية بحبرها ودمها حتى اليوم.. وإن كانت لوحة العرض الختامية تداركت هذه الثغرة.
هكذا، تبلغ المواجهة بين الصوتين قمّتها. يدركا أن الموت المشترك حتميٌّ لكليهما، فيشرع كل واحد منها في البحث عن نفسه في الثاني، وهنا يكتشفان أن الجدار الحقيقي هو خلافهما، وليس جدار الإسمنت الذي لا يمكن أن يستمر إلى الأبد.
في حديث إلى "العربي الجديد"، يقول مخرج المسرحية وكاتب نصها إنه ركّز على الخلاف الفلسطيني/ الفلسطيني، لأنه يؤمن بأن أي استعمار لا يدوم، لكنه يستفيد من الخلافات الداخلية لإطالة وجوده. "اختلاف أبناء الأرض في طريقة تحريرها هو معطى إنسانيّ، ويشكّل مادة فنية يمكن استثمارها جمالياً".
ويضيف أن عدم اقتراب الفنانين والمؤرخين العرب من تناول هذه الصراعات في أعمالهم "أوقعنا في تقديس ثوراتنا وحركاتنا الوطنية، بشكل أعمى، بل وجعلنا نقدس حتى الأشخاص الذين قاموا بها، لنصبح أسرى الدكتاتوريات، بعد أن تحررنا من أسر الاستعمارات".