باستثناء نصوص شعرية متفرقة ترجمت له إِلى العربية، لا نعرف ـ في حدود علمنا ـ أَن للشاعر الأميركي لُورَنسْ فِيرْلينْغِيتِّي (1919) كتباً تُرجمت إِلى لغتنا. نعرف أن الشاعر العراقي الراحل سركون بولص كان من أوائل مَن اهتموا بشعْرهِ وتجربته الإبداعية والنضالية في النصف الثاني من الستينيات، ضمن اهتمام مبكر بشعراء الطليعة الجديدة في أميركا.
وينبغي القول إِن فِيرْلينغيتي، على أهميته الشعرية والاجتماعية، لم تُترجَم بعض كتبه إلا إلى تِسع لغات (بينها الفرنسية والإيطالية التي يمكنني الوصول إليه عَبْرَهُما). ويمكن أن نلاحظ أن معظم الذين اهتموا به في العَالَم أَثارهم أساساً شَغَبُه وخطابُه الراديكالي المتحمس والمندفع في مواجهة النظام السياسي لبلاده، وانخراطه في معظم الحركات والتظاهرات الاحتجاجية التي واجهت التوجهات الأَميركية الرسمية والنزوع الحربي لبعض قادة أميركا (خليج الخنازير في كوبا، الفيتنام، أميركا اللاتينية، حرب الخليج وغيرها)، حتى إنه قال مرة: "أنتظر أن يكتشف أحدٌ ما أميركا ويبكي".
كان الاهتمام بمواقفه وتصريحاته وبياناته غالباً على حساب الاهتمام بنَصِّه الشعري، وإِن بدأنا نلمس مؤخراً بعض الأصوات الشعرية العربية الشابة تتمثل شعريته بل وتستنسخها في بعضِ ما نقرأه لها من قصائد.
فيرلينغيتي، الشاعر والكاتب المسرحي والناشر والرسام والناشط الاجتماعي والسياسي، هو ـ بالتأكيد ـ أحد أهم أركان حركة شعراء الـ"بيت" فِيرْلينْغِيتِّي في سان فرانسيسكو، إِلى جانب غينسبيرغ وكيرواك وغريغوري كورصو وآخرين. وقد وفرّت مكتبته الشهيرة، "سيتي لايتس"، في تلك المدينة نقطة التقاء للحركة، وفضاء خصباً لحواراتها وسجالاتها الداخلية والخارجية. تلك المكتبة التي سرعان ما تحولت أيضاً إلى دار نشر اشتهرت خصوصاً بسلسلتها "شعراء الجيب" التي نُشرت فيها أعمال شعراء مشاغبين جدد تفاعلوا مع التغيرات السوسيوثقافية العميقة التي كانت تعيشها الولايات المتحدة خلال ستينيات القرن العشرين.
قضى فيرلينغيتي طفولته الأولى في فرنسا التي ذهب إليها برفقة إِحدى قريبات العائلة، وذلك في أعقاب عزل والدته المريضة عقلياً في أحد المحاجر الصحية. ثم أعيد في سن الخامسة إلى مسقط رأسه حيث بدأ دراسة الإنجليزية. عاش مراهقة صعبة ومضطربة، التحق خلالها بإحدى الجماعات الجانحة من قراصنة الأَحياء (الفُتُوات) ليُعتقل على إِثرها، قبل أن تتيح له برامج إعادة التأهيل إمكانية متابعة دراسته التي انتهت بحصوله على شهادات عليا بما فيها دكتوراه من جامعة كولومبيا في نيويورك.
يُعْرَف عن فرلينغيتّي شغفه الكبير بشعر بودلير، ونزوعه الروحاني والأخلاقي البوذي الذي تلوح ملامحه في شعره وبياناته الشعرية النارية. وهو الآن، في سِنِّهِ المتقدمة، يقضي معظم وقته في ضيعته على ساحل "البِيغْ سور" معترفاً، أخيراً، بأَن الإنسانية لم تكن ـ ولا تزال حتى الآن ـ غير جاهزة لتقبل بالأَفكار "الفوضوية" التي كرَّس لها سنوات وافرة من حياته. ومع ذلك ليس بإمكان أَحدٍ من المهتمين بالحركة الشعرية المعاصرة أن ينكر الدور المهم لهذا الشاعر في تحريك سواكن الكتابة الشعرية. ولا تخفى إِضافاته النوعية ـ هو وغينسبيرغ وكيرواك وكورْصُو، وحُلفاء آخرين مثل شارل بوكوفسكي ـ في تثوير اللغة الأدبية وتغيير قاموسها التقليدي الجامد، وفتح الشعر على هوامش الواقع الاجتماعي والتحولات البنيوية العميقة في الثقافة والفكر والسياسة، واستيعاب معاجم المُهَمَّشين البذيئة والوَقِحَة وتوظيف المرجعيات الروحانية الشرقية والمِثْلية ولغات المدمنين والسكارى، وإيلاء الاعتبار للثقافة السياسية للحركة "الفوضوية" و"خرابها الجميل".
اعتبر فيرلينغيتي أن "الشعر هو الصرخة التي نطلقها ونحن نستيقظ في غابة معتمة وسط طريق حياتنا". شعر يحتفي به لاري سميث بقوله: "إِنه يكتب قصائد لا تُنْسى، تظل حية في ذاكرة وضمير القراء، وتسهم في الوعي بضرورة التغيير. كتابة تغني مع الموسيقى الحزينة في الشارع".
ورغم قيمته المركزية في حركة الـ"بِيت"، قال فيرلينغيتّي "لم أكتُبْ أبداً شعْرَ بِيت بل شعر الانفتاح الكبير". وهو فضّل في أحد حواراته الصحفية تعبير "الانفتاح الكبير" في وصف شعره. قال له نيرودا، حين التقاه سنة 1950 في لقاء داعم للثورة الكوبية إِبَّان بداياتها: "أحب شِعْرَكَ الأكثر انفتاحاً"، ومن ثَمَّ جاءت هذه التسمية التي يقول عنها فيرلينغيتي مُتَفكِّهاً إِنه لا يعرف حتى الآن ما إِذا كان نيرودا يقصد المضمون الواسع لشِعْره أم كان يلمح إِلى أشعاره النابضة بروح الحياة!
وشأن باقي أعضاء جماعة سان فرانسيسكو الشعرية، غينسبيرغ بالأَخص، لم يُولِ فيرلينغيتي كبار الشعراء الأَميركيين المكرَّسِين عالمياً الاعتبار، فهاجم بدوره عزرا باوند. إذ اعتبر هو ورفاقه أن باوند "يكتب الشعر من خلال القراءة والكتب لا من خلال التجربة الإنسانية الحية، ويكتب انطلاقاً من المتحف الأَدبي!". كما تبادل شعراء الـ"البيت" عبارات التمجيد وظلوا يوزعونها فيما بينهم: "كيرواكْ هو أعظم شاعر أميركي!" مع أنه عرف واشتهر أساساً كروائي؛ "أعتقد أن كورْصُو نابغة وخَلاَّق كبير مثل كيتْس" يقول غينسبيرغ مميزاً فيرلينغيتي إلى جانب والن وسنايدر، "الشعراء الأكثر حكمة ويمكن أن يُعوَّل عليهم!". كما نال شعراء آخرون نفس النظرة الاحتفائية أمثال ماك كلور ووينرز وأولسن وأوهارا وأشبري وكوتش...
لقد رفضت جماعة "البِيتْ" كل أنواع التعاقد الاجتماعي والأَخلاقي التي من شأنها تعطيل حرية الشاعر في التخيّل والتصرف والتحرك والكتابة، "فالمرءُ لا يكون حرّاً إِلا إِذا كان متحرِّراً من كُلِّ إِكراه، خارجي أو باطني، مادي أو معنوي، وحين لا يكون خاضعاً لأَيِّ إكراه، لا من طرف القانون ولا بسبب الضرورة"، بالمعنى الذي كان يقول به سكايلَرْ في كتابه "الجماليات الأَدبية" (1845) وتَبنَّاه شعراء الـ"بيت". إِن الأخلاق التي يفرضها الاشتغال الإيديولوجي المهيمن تقتل الخيال وحرية الفعل لدى الإنسان، هذه الأَخلاق التي لها راياتها وشعاراتها ودولاراتها...
فيرلينغيتي، مثل غينسبيرغ أيضاً، سخِرَ في شعره وبياناته الشعرية عالية النبرة والغضب من أميركا وقوتها الاستعراضية، وكذا من "الحلم الأميركي" الذي ظل، في نظره، "مجرد حلم"!
وفي الاعتقاد، كما في القصيدة والخطابات الموازية كلها، لاحَتْ أميركا لهؤلاء الشعراء الغُلاَة المتحرّرين وطناً للاجئين والتائهين والمعذبين والبؤساء واليائسين. كما وصفوها بأنها مجرد "حفرة كبيرة تحاول أن تنهض في عتمات بنوكها ومؤسساتها المالية فتعاود السقوط في متاهتها اللانهائية بلا استقرار حقيقي وبلا هوية متجانسة. إن أميركا بكُلّ قُوَّتِها النوَوية، وكل الثراء الفاحش الذي لا يُستَنْفَد لأَراضيها الشاسعة، وكل مجتمعها القائم على النكران والتجاهل والجحود، لن تستطيع شراء إِثنية منسجمة، ولا ترميم ماضٍ وطني مشترك، ولا أن تمنح للبلاد جذوراً خالية من الاستلاب".
* شاعر من المغرب