في رحلة القطار المنتقل بنا من منطقة لورين الفرنسية إلى لوكسمبورغ، حدثتنا سيدة بلغة فرنسية ركيكة عن عائلتها الإقطاعية التي كانت تملك مساحات واسعة من سهول موسيل الخضراء. تلك السهول التي تستقطب السياح من مختلف المناطق الأوروبية الباحثين عن الهدوء البعيد من ضجيج المدن، قد لا يتوفر إلا في دوقية لوكسمبورغ حيث الطبيعة الخلابة تتجاور مع التاريخ والحداثة. وتعد الدوقية المستقلة رغم صغر حجمها، والمزنرة بقصور القرون الوسطى، إحدى أبرز الوجهات النشطة في فصل الشتاء القارس، وهي واحدة من أقدم دوقيات العالم وآخرها، ويعتمد نظام الحكم فيها على الملكية الدستورية، ويقتصر الدور السياسي للدوق على تعيين الشخصية التي تتولى تشكيل الحكومة. وعلى الرغم من أن هذه العاصمة تعتبر قطباً اقتصادياً مهماً في أوروبا، إلا أنها تزخر بفن معماري مختلط يمكن ملاحظته فور الوصول إلى محطة القطار والخطو في الوسط التجاري. هناك تقف أبنية الشركات متعددة الجنسيات والبنوك العالمية متفرجة على الحياة النابضة بالزائرين وحاملي كاميرات التصوير، ملتقطي لحظات السفر بين الجسور المعلقة، حيث تضم المدينة 110 جسور تمر بين أودية وسهول ومخابئ من الماء، تتوزع قربها الأبنية المزخرفة والساحات المليئة بالمطاعم والبارات ومحال التسوق الفاخرة.
جسر أدولف
وفور الترجل في المدينة، يلفت الانتباه جسر أدولف التاريخي والذي يعود نشوؤه إلى عام 1900. وكان أمر ببنائه دوق لوكسمبورغ أدولف والذي حكم الدوقية من عام 1890 حتى عام 1905. ويبلغ طول الجسر 153 متراً. صممه كل من الفرنسي بول سيغورني وألبرت رودانغ. وتم نسخ تصميمه لبناء جسر وولنت لين في فيلادلفيا (أميركا). ويشكل الجسر رمزاً وطنياً غير رسمي ويمثل واحداً من أبرز معالم استقلال لوكسمبورغ. وتقسم لوكسمبورغ إلى قسمين، المدينة العليا والمدينة المنخفضة، ولكل واحدة منهما عوالمها وحياتها الخاصة. إذ تتداخل فيها النشاطات السياحية والترفيهية والتسويقية، لتجعل من كل واحدة مدينة بحد ذاتها. وتتوزع "المدينة العليا" فوق سفح صخري وفيها قصر "غراند دوكال"، وهو من المعالم البارزة سياحياً، ويعكس الوجه المعماري لعصر النهضة الإسباني، ومدى تأثر لوكسمبورغ بهذا العصر وهندسته. إضافة إلى القصر، تتأنق كاتدرائية نوتردام بحضورها الآسر، وهي كاتدرائية الروم الكاثوليك الوحيدة وكانت في الأصل كنيسة يسوعية، وتم وضع حجر الأساس فيها عام 1613. وفي مقبرة الكاتدرائية يرتفع النصب التذكاري الوطني للمقاومة والترحيل الذي ابتدعته أنامل النحات اللوكسمبورغي لوسيان فيركولييه في القرن العشرين. والكنيسة هي مثال حي عن العمارة القوطية في أواخر زمنها، لكنها تحوي أيضاً على آثار واضحة من عصر النهضة.
رحلة المشي الساحرة
ومن هناك حيث يركن الحي القديم على منازل وحارات ضيقة، تزيد حشرية الزائرين إلى تفقدها والمرور عبرها واختلاس النظر إلى البيوت والغرف. هذا النوع من التلصص تعده جاين، إحدى ساكنات الطبقات الأرضية من مبنى يعود إلى القرون الوسطى، بأنه "طبيعي وقد اعتدناه"، موضحة: "السياح كثر في هذه المدينة وعيونهم تبحث عن كل شيء غريب عنهم، والنظر إلى البيوت حتى لو كانت مسكونة أمر صار من حياتنا اليومية. هذا أمر لا يزعجنا بالعكس يجعلنا نفتخر بالتراث المادي الذي تحتويه مدينتنا". رحلة المشي تصبح أكثر من ساحرة، كلما توغلنا في عمق تلك الحارات التي يذكر بعضها بمدن المتوسط، رغم اكتنافها بعض الغموض، إلا أنها أحياء تشير إلى عمق التاريخ ومدى علاقة السكان بثقافات أخرى. فلا بد من فهم أن هذه الدوقية في غمار تعلقها بين دولتين، فرنسا وألمانيا، تأثرت بطبيعة الحال بلغتهما، وأيضاً بمأكولاتهما وطراز عمارتها مستوحى منهما أيضاً. ويعد المطعم الفرنسي موجوداً بوفرة في تلك الحارات. مطاعم صغيرة تحتوي على "لائحة أطباق" آتية من الشمال الفرنسي، أو من منطقة النورماندي، لكنها مطعمة بخلط من المطبخ الجرماني.
في الجولة، لا يمتنع الناس عن الابتسام رغم برودة الطقس. تهبهم مشياتهم المتباطئة خفة لا تجدها في مدن أوروبية أخرى. فنصل إلى سفح رام، والذي يربض فوقه برج أثري يعود إلى عام 1590 وهو إحدى أبرز بوابات المدينة تاريخياً ويسمى بـ"برج جاكوب". وتحيط البرج ثكنات عسكرية أقيمت في عهد الماركيز دو فوبان. ومن تلك الثكنات يمكن عبور الأحياء الأقدم في المدينة، لنشعر أننا ندخل التاريخ وسط قصور صغيرة ومنازل وقلاع قصيرة الحجم، أبرزها حصن كيسميتس وصولاً إلى وادي آلزيت. ومن هذه النقطة يمكن رؤية قلعة تونغين التي تطل على مبانٍ حديثة للمدينة العريقة والتي تضم مراكز مالية عالمية متناغمة في مبانيها مع الهندسة المعمارية النيو كلاسيكية، من مؤسسات جعلت لوكسمبورغ عاصمة ثالثة للاتحاد الأوروبي، من بينها مقر بنك الاستثمار الأوروبي ومقر محكمة العدل الأوروبية ويتوزع فيها مئتا بنك ومؤسسة مالية و6000 شركة عالمية قابضة. ولا يمكن لزائر لوكسمبورغ أن يودع التاريخ وعالم المال والأعمال والأبنية الفاخرة والسهر الباذخ، قبل أن توغله في رحلة البراري. فمن التاريخ، إلى الغابات المتناثرة والسهول مترامية الأطراف كأنها قطعة من جنة على الأرض. هناك يمكن عبور الأنهار التي تربط فرنسا بألمانيا عابرة لوكسمبورغ ومدنها وأريافها صغيرة الحجم للوصول إلى أراضي موسيل المشهورة بطبيعتها المتوحشة ومنحدراتها الخضراء وحقول العنب الشاسعة فيها. هناك يمكن أن نعرف أنّ هذه الدوقية بقدمها وآثارها وحداثة عمرانها واقتصادها الثابت، تستحق زيارتها مراراً.