ماذا لو جاء أنطونيو غرامشي في زيارة عاجلة إلينا للوقوف على واقع الثقافة الفلسطينية؟ ترى ماذا سيقول؟ هل سيبقى على آرائه التي نعرفها؟ أم أنه سيبتكر مقولات جديدة؟ أم...
شخصياً، أرجّح هذا الخيار: سيتوقف عن التفكير.
غرامشي لن يأتي بالتأكيد. ليس لمجرد أنه مات، بل لأنه يعرف ـ في حال حدثت معجزة قيامته مرة أخرى ـ أنّه لا جديد يضيفه إلى ما سبق وقاله. ولكن بما أننا لا نزال نعيش في الزمن الفائت، فلا مانع من محاولة استحضار أفكاره على طريقة استحضار الأرواح.
في الحالة الفلسطينية التي أفرزتها أوسلو، أو الاحتلال، نحن لم نعد نمتلك الأرض التي هي بيئة الإنتاج الأولى، وليس لدينا سلطة عليها، وبالتالي، هذا يبعدنا عن الثقافة التي يمكن أن تكون طوق نجاتنا.
ما لدينا شريحة ثقافية، تتمثل في وجهين: الأول مثقف ينطلق من الأنا المنحازة للسلطة ومشروعها. وليس بالضرورة أن تكون تلك السلطة سلطة سياسية، فهناك أيضاً سلطة المجتمع المدني بمالها وامتيازاتها. والوجه الثاني مثقف يقف في الجهة الأخرى المعارضة لنهج السلطة وخياراتها، لكنّه غير مستعد لخوض المغامرة كاملة. سواء كان ذلك لجهة التحريض على انتفاضة ثالثة، أو لجهة الذهاب إلى اجتراح أفكار ورؤى أبعد من لعبة نقد الأداء السياسي اليومي للسلطة.
سيرى غرامشي في زيارته المفترضة ـ بين هذا وذاك ـ صورة وحيدة، هي الصورة التي يقدمها المثقف البيروقراطي (مثقف التنظيم) الذي يمثّل الشريحة السياسية الواسعة التي يرتكز عليها الحكم: موظفو الوزارات، والمدراء العامون، والوكلاء، والمستفيدون، والمتنفذون. طبعاً هؤلاء ينطبق عليهم قوله القديم: "كل الناس مثقفون، لكن ليس لهم كلهم أن يؤدوا وظيفة المثقفين".
هؤلاء هم الأكثر استفادة من ميزات السلطة. هم قاعدة تمرير المعلومات والقرارات، وهم القوة التي استطاعت إزاحة "سلام فياض" مؤخراً، لكنّها، على قوتها، تحمل أطروحات محددة ومعينة لما ينبغي أن تعنيه سلطة تقع تحت الاحتلال. وبالتالي، لا تخوض هذه الشريحة النقاش حول السلطة إلا على ضوء مصالحها.
مهمة هذا المثقف، بالدرجة الأولى، هي تأكيد الواقع بكل ثمراته وعوائده، وغرضه الأساسي التقدم الوظيفي فقط لا غير. في المقابل تمّت إعادة إنتاج الثقافة السائدة بصورة بيروقراطية، أي أن الجهاز الثقافي استنسخ من التجارب العربية المجاورة طرق الإدارة وبنية الخطاب، مازجاً ثقافة التحرر بثقافة الدولة، حتى صار الإيغال في التبعية إنجازاً على سبيل المثال.
أثناء ذلك وبعده، سيرى غرامشي في الصور المعروضة أمامه (مثل فاكهة فاسدة في البراد) أنّ المثقف يخفي ما يُبطن، ويُظهر ما لا يؤمن به. وتلك أقصى صورة كوميدية ممكنة لمثقف السلطان. وسيشعر غرامشي بالتأكيد أنه حيال حالة جديدة لـ"مثقفي الكَنَسيّة".
الثقافة الفلسطينية التي تستند إلى الموروث الذي جاءت به الشخصيات التأسيسية، ليست قادرة الآن على مدّ الحياة بما تستحقه من الولادات الجديدة. بل إنّها تعزز انفصالها عن الشارع لصالح مهمتها المقدسة في الترويج للخطابات السياسية (في غزة و"الضفة الغربية" على حدّ سواء)، وذلك في إطار خلافٍ كامل على كل شيء، واتفاق كامل على شيء واحد ليس سوى تفادي فكرة التحرير نفسها.
إنّما في انفصال كلّي عن اللحظة التاريخية ـ حسب مفهوم غرامشي عن الواقع ـ التي يعيشها الفلسطينيون اليوم. حيث تبدو الثقافة الفلسطينية مثل امرأة مشغولة ببعث فساتينها القديمة من "الدولاب"، دون أن تفكر في علامات الشيخوخة على وجهها ويديها، ودون أن تفسح المجال لبناتها الصغيرات للظهور أو التحدث عمّا يشغل بالهن.
لهذا، وذاك، وذلك؛ سيترك غرامشي فلسطين يائساً، وسينطلق مسرعاً لينجو بالبقيّة الباقية منه. فصاحب "الفكر المتشائم والإرادة الحرة" لا يرضى بتزوير نفسه بالفكر المتفائل والإرادة الأسيرة.
* شاعر من فلسطين